هذا ما وجدنا عليه آباءنا؟… قصص شباب ارتدوا عن تنظيمات وإيديولوجيات الآباء
كيف تتحول العلاقة الثابتة بين والدة أو والد وابن أو ابنة إلى علاقة ضعيفة يحكمها منطق الانتماء للتنظيم؟ هل هي تنظيمات إيديولوجية أم تنظيمات بيولوجية يولد فيها المرء كي يحمل قميص تنظيمه!!
هذه… قصص شباب ارتدوا عن تنظيمات وإيديولوجيات الآباء، واختاروا اعتناق عقائدهم الخاصة.
في كثير من الأحيان، يُجبر الأبناء على اعتناق أفكار وتوجهات آبائهم سواء كانوا يميناً أو يساراً، فيجد الأطفال أنفسهم داخل تنظيم أو توجه لم يختاروه، بل اختاره لهم الآباء على المقاس.
في هذا الملف، تعرض مرايانا قصص شباب اختاروا التفكير خارج إطار التنظيمات التي وجدوا عليها أسرهم وأهاليهم. يسردون لنا تجارب التحول وسوء الفهم بين الأب والأم والابن والابنة.
المُتصوف العاق
يونس، شاب من مدينة أزيلال، يفتح لمرايانا صفحات الماضي حيث يقول: “كانَ والدي قياديا في تيار إسلامي، قضيت خلالَ هاته التجربة سنوات عديدة. غير أني عند بلوغي سن 16 سنة، غيرت المسار”.
يقول يونس: “شاءت الأقدار أن ألتقي بأستاذ التربية الإسلامية الذي بدأ يمدني بكتب ومراجع تناقض التوجه الذي كنت عليه، بعد أن كنت أجادله في كل فكرة يطرحها في القسم. كان الأستاذ ياسين متشبعا بفلسفة الغزالي وابن رشد وابن عربي، فيما كنت أعتبر هؤلاء خارج سربنا المعهود”.
“أتذكر أوَّل مرة أَحضر لي كتاب “الحكم العطائية” لابن عطاء الله السكندري، قال لي بالحرف: فقط اقرأ ولا تتردد في مراسلتي إذا ما استعصى عليكَ فهم فكرة معينة”. بدأت أطلع على الكتاب، وبصراحة لم أقتنع بما ورد فيه” يقول يونس.
حسب المتحدث، الكتاب كان مفتاحا للبحث عما كان يعتبره انحرافا عن الدين والمنهج، فوقع في حب ابن عربي وابن الفارض وكتابات التصوف النظري. بعد مرور سنتين، التقى التلميذ السابق بالأستاذ ياسين في المعرض الدولي للكتاب، والذي كان حينها ينظم في الدار البيضاء. كان اللقاء مُفعما بالتصوف والفلسفة.
انفتح المتحدث على الحداثة وعلى قضايا الفلسفة والنقاش الحر، هذا الانفتاح كان انغلاقا من زاوية أخرى. بعد أن كان والده يعتبرهُ خلفاً له في الحركة الإسلامية، يُمني النفس بأن يكونَ في منصبه بعد أن بدأ التدرج في هياكلها. اعتبره والده خارجاً عن المنهج الذي رسمه له. وهنا بدأت المُشادات بينهما.
يقول يونس: “دائما ما كان والدي يسعى لقمع أفكاري، في البيت يحاول منعي من مُحاججته ويدفعني للصمت. انقطعت عن حضور لقاءات يستضيفها في البيت وبيوت باقي الأعضاء. لقد خيبت ظن والدي الذي عبر عن هذا مراراً… لم أكن ذلك الابن الذي كانَ ينتظر”.
“لم أن أكن أتوقع أن تغيير توجهي سيغير في البداية موقف والدي مني، ولم أكن أدري أن خلافي مع والدي سيكون بهذا الشكل. أنا الآن متصوف وهو لا زال على عقيدته، لكنه لا زال يعتبر أني خيبت آماله.
اليوم، أنا متزوج وأب لطفلة صغيرة، لن أُعيد تجربة والدي، سأسعى لتكون ابنتي حرة في فكرها. قد أساعدها على البحث والتقصي، لكني لن أرغمها على التصوف كما أرغمني والدي على أن أكون داخل الحركة الإسلامية”.
الأخ الشيوعي
غير بعيد عن يونس، تبحث مرايانا في قصة أحمد، الذي يتابع دراسته الجامعية بمدينة فاس، والذي قال من أول وهلة لمرايانا: “لم أجد ما أعبر به غير لوحة “الهروب من الإطار” للرسام الإسباني بيرى بوريل ديل كاسو. كثيراً ما أعود لهاته اللوحة، وأحياناً اعتبرها ملاذي وخلاصي حينما تعود بي ذاكرتي إلى الوراء”.
يقول أحمد: “كلما أمعنت النظر في تلك الصورة، تذكَّرت تجربتي الأولى خارج إطار التنظيم الإسلامي الذي كنتُ أنتمي إليه، كنت شارد الذهن باحثا عن ملاذ، بعدما أثقلت كاهلي بأفكار لا تناسب سني وزماني”.
كان دخول أحمد الجامعة سبباً في خلاصه، حيث ولج كلية العلوم ظهر المهراز، فكانت الجامعة منارة للنقاش والتفكير النقدي والفكر التنويري. يتذكر أحمد أول نقاش حضره حول بعض الظواهر العلمية. يقول عن هذا الحادث: “بكل سذاجة، تدخلت نافيا منطق العلم ومستحضراً ما راكمته من معارف وهمية”.
حسب أحمد، هذا الحدث دفع بعدد من الطلبة الحاضرين لتقديم طروحات نقيضة لما قلت، فبدأت أطرح أسئلة ذاتية، لماذا لم أكن أعرف هاته الطروحات؟ وهل فعلاً هذا صحيح أم أن ما تعلمته هو الأصح؟ وإذا ما كان ما تعلمته خاطئا، لماذا تعلمت كل هذا وكنت تائهاً مدة طويلة؟
يقول المتحدث: “الحدث الثاني الذي ظل عالقا في ذهني هو أني، بالصدفة، سمعت نقاشاً حول التراث وتدوينه. كان النقاش بالنسبة لي استفزازا ذهنيا أسعى للبحث عنه، وقد تزامن هذا النقاش مع حلقية طلابية بالجامعة.
في نهاية النقاش، التقى المتحدث طالبا ألقى مداخلة حول نقد النص الديني ومشروع حسين مروة “النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية”. قدم له الطالب كتاب حسين مروة، وكان ذلك قبل العطلة مباشرة.
يسترسل أحمد: “عند عودتي لمدينة تاونات، أخذت معي بعض الكتب التي استعرتها بمعية كتاب “النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية”. كانت المفاجأة أن والدي قال لي بالحرف: “هاد ظهر المهراز غادي تخرج عليك”. هنا، فتحت بابا من الخلاف مع والدي، الذي خيرني بين العودة لرشدي أو منعي من الدراسة”.
حسب أحمد، حدث ذات مرة أن التقى أحد أصدقاء والده الذي حضر لتنشيط نشاط فصيل طلابي إسلامي. خلال تلك الفترة، كان الصراع بين الفصائل الطلابية في أوجه.
كانَ أحمد يتحدث داخل حلقية تناقش قضية الديمقراطية وحقوق الانسان، ويحاول تقديم مقاربة نقدية لسرديات الشورى والدولة الأمة والجامعة، ويشير في مداخلاته إلى مفهوم الدولة والديمقراطية. سمع مداخلته صديق والده الذي ظل يسترق السمع، ليخبر والده أن ابنه… أصبح شيوعيا.
يقول أحمد: “كانت والدتي تتصل بي وتتوسل لي العودة لطريق أبي. كانت أمي سيدة بسيطة لكن أبي أقنعها أني خرجت عن طوعه. غير أنها تعرف أني لم أفعل شيئا سوى أني أحمل أفكارا مغايرة لما يحمله والدي”.
بعد مرور مدة طويلة، عادت علاقتي مع أبي لمجراها، غير أنه لا يزال ينتظر أن أعود لرشدي كما يعتقد. أبي رجل بسيط ومتدين، أنا على يقين أنه لا يفعل كل هذا من تلقاء نفسه، بل بضغط من جماعته، ما أتمناه أن يتم احترام موقفي وقناعاتي ما دامت لا تؤثر لا أحد.
منبوذة وسط الأسرة
“حينما تكون ذكرا، قد تغير مواقفك وتوجهاتك وغيرها، هذ لن يؤثر كثيراً. لكن، أن تقول بهذا أنثى فهي أثقال أخرى تنضاف للأحمال المعتادة. حينها، قد يتخلى عنك حتى أقرب المقربين”. كان هذا حديث يسرى (اسم مستعار) لمرايانا عن تجربتها في تغيير عباءة أسرتها.
الغريب في حالة يسرى أن الإدانة الأولى أتت من والدتها، التي ظنت أنها ستساندها وتقف بجانبها. كانَ مسار يسرى وسط أسرتها وبيتها الإسلامي المحافظ محط سؤال عندها دائما، وكان يشكل لديها أسئلة دائما ما تقابل بأنها أسئلة غير مشروعة.
تقول يسرى: “ذات يوم طرحت على والدتي سؤالا عاديا، غير أنها أخبرت والدي بذلك. في المساء دخلا علي الغرفة لتنبيهي أن مساري لم يعد مطمئنا كما كان، وأني بدأت أزيح عن المسار الذي رسماه لي”.
حسب يسرى، الأم كانت تنشط في الحركة الإسلامية، بينما والدها كان قيادياً نقابيا، ولهذا فإن ليسرى خيارين، إما أن تختار مسار والدتها وإما أن تختار مسار والدها. غير أنها اختارت مساراً ثالثا: التفكير خارج الإطار.
تشرح يسرى التحول الحاصل في أسرتها، معتبرة أنها تحولت من الابنة المدللة، آخر العنقود، إلى الابنة التي يرفض أهلها رأيها، وترفض أمها مناقشتها كما ترفض أن تبدي رأياً عقاباً لها على اختياراتها.
تقول يسرى: “بمجرد ما فكرت في تغيير نمط عيشي. قالت أمي إن هذا لم يكن قط موجودا أو متخيلا حدوثه داخل الأسرة التي كانت دوماً محافظة. ادعت أمي أني أريد نزع الحجاب. أقنعت أبي أني أريد أن أتملصَّ من هويتي الدينية وفق قولها.
كل ما في الأمر أني طرحت مع أمي أسئلة فكرت فيها خارج ما يجول في البيت وفي “الجلسات التربوية”. لو أعلنت أشياء أخرى لكان الواقع أفظع، ما أصعب أن أعيش في وسط يرفض الاختلاف”.
قواسم مشتركة بين يُسرى وياسين وأحمد، التفكير خارج الصندوق، سوء الفهم، إشكالات عديدة بين الأسر تدبر أحيانا بقطع الصلة واليأس من الأبناء الذين لم يختاروا سوى أن يكونوا كيفما أرادوا.