محمد امحاسني يكتب لمرايانا: نبيلة منيب والقبيلة - Marayana - مرايانا
×
×

محمد امحاسني يكتب لمرايانا: نبيلة منيب والقبيلة

في الوقت الذي ينزع فيه كل الديموقراطيين والحداثيين إلى فصل القضية الفلسطينية عن بعدها الديني، والتعامل معها كقضية تحرر شعب من الاحتلال، لإعطائها إشعاعا دوليا والترويج لها في كل المحافل الدولية، تفضل نبيلة منيب الاستمرار في اعتبار القضية مسألة صراع وجودي مباشر، لا يضمن أحد طرفيه الاستمرار في الوجود إلا بانتفاء الطرف الآخر.
لكنها، ومن سار على نهجها، في الوقت ذاته، يستغربون ويدينون بحماس عجيب، دعوات اليمين الإسرائيلي المتطرف، المطالب بأرض إسرائيل لشعب إسرائيل

يبدو أن يسارنا  التعس قد فقد بوصلته السياسية، طردا مع فقدانه للزخم الذي كان يتميز به خلال عقدي السبعينات والثمانينات، ولحشود الجماهير التي كانت تؤثث الفضاءات العامة، في مختلف الفضاءات والفعاليات.

تلك الحشود التي اضطر أغلبها اليوم، إلى الانزواء وتجرع مرارة الخيبة في صمت، وآثر البعض منها الارتماء في حضن السلطة الدافئ؛ في حين قررت بعض قياداته التملق للإسلاميين، بصفاقة ظاهرة، ومغازلة النوازع العاطفية للعامة، علها تستقطب بعضا من شتاتهم، وتستعيد ولو نزرا يسيرا من توهجها المفقود.

نبيلة منيب أول امرأة تترأس تنظيما سياسيا في البلد، توسمت فيها شرائح غير يسيرة من المجتمع الليبرالي أن تكون، كما وعدت بذلك في غير مناسبة، إحدى الأصوات التي لن تفاوض أبدا على مطلب إرساء تقاليد سياسية جديدة، منبنية على الحداثة والعلمانية والديموقراطية. سيما وأنها بنت حملتها على أساس مشروع تحديثي للفعل السياسي نفسه، قبل الدعوة إلى النضال من أجل تحديث نظام الدولة، بالموازاة مع العمل القاعدي المستمر، والمراهنة على تطوير وعي الجماهير، لتكون أقدر على تسيير دفة مصيرها بنفسها.

أو هكذا خيل لي، على الأقل، إثر ما عايشت وقرأت وسمعت.

لكن، يبدو أنه، مع توالي الوقت، بدأت بعض الأولويات تضمحل، أمام قوة وسحر التسويات والتفاهمات. وصار المبدأ رهنا للمكاسب الانتخابية، والأصلح أفضل من الأحق.

لن أوغل في التفاصيل، لأن الجانب السياسي من الموضوع، لا يعنيني هنا.

موضوع دهشتي وتذمري اليوم، ولا أخالني الوحيد في هذا، هو التحول الإيديولوجي المشهود الذي صار يطبع مواقفها العلنية بخصوص قضايا، أضحت تشكل بعدا استراتيجيا في برامج كل الأحزاب المغربية، بحكم ارتباطاتنا التاريخية، الدينية واللغوية مع شعوب أخرى. وعلى رأس هذه القضايا طبعا، القضية الفلسطينية.

هذا التحول الإيديولوجي تجلى بوضوح في التصريحات الخطيرة، والغريبة في آن، التي أدلت بها الدكتورة مؤخرا. ربما تأثرا بتجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، إبان الخمسينات والستينات، حيث دعت إلى:

تعزيز الخطاب الديني في دعم القضية الفلسطينية

عفوا سيدتي، لم أفهم.

أعرف أن القومجيين والاشتراكيين الطوباويين والإخوان يطالبون دوما باعتبار القضية الفلسطينية، قضية وطنية. ليس لأن الأمر يتعلق بدعم نضال كل الشعوب المستضعفة ضد الاحتلال الغاصب، ومنها الشعب الفلسطيني. بل فقط، بسبب العاطفة الدينية والقومية البدائية.

لا بأس، العاطفة الدينية أصلا، هي كل ما كان، وما زال يجمع الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية.

لكن، ما لا أفهمه في العبارة، هو الدعوة لتعزيز هذا الخطاب الديني نفسه!

هل المقصود، هو العودة إلى تراثنا وتاريخنا الدينيين، التماسا للمزيد من الحجج الدامغة على عدالة القضية؟

أم فقط لإذكاء النعرة الدينية لدى المسلمين، لتسهيل تجييشهم لحرب قادمة ضد “قتلة الأنبياء” المغضوب عليهم؟

إن كان الأمر يتعلق بالحجج التاريخية، فالطبري وغيره من فطاحلة المفسرين، يبحرون في غير الاتجاه المروج له اليوم. وما على الدكتورة إلا مراجعة تفسير هؤلاء للآية 58 من سورة البقرة: “وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم، وسنزيد المحسنين”.

إذ يؤكد أغلبهم أن الله أمر اليهود، في هذه الآية، بدخول أرض فلسطين، دون مواربة.

علاوة على ما تعد به التوراة تابعيها من تمكينهم من أرض ميعاد الرب، بعد أن يصوب داوود ويصيب بمقلاعه، قلب جالوت، ويبيد الكنعانيين، قبل أتفه حيواناتهم… ويستوطن الأرض المقدسة.

النبش في “تاريخ” له ما له، وعليه ما عليه. لذلك، فهو لن يخدم القضية إلا بقدر ما سيأخذ من مصداقيتها، وربما أكثر.

وإن كانت الدكتورة تدعو لتحويل القضية إلى إحدى ثوابت الدين المعلومة بالضرورة، فالخطب أجل. إذ أن إلباس قضية تحرر شعب ما، من الاحتلال، بلبوس الدين، لن يعدو كونه دعوة صريحة لحرب دينية جديدة، لن تحرق في النهاية، إلا الأقل عدة واستعدادا.

حماية المقدسات الإسلامية يجب أن تكون من أولويات الدولة المغربية

على افتراض أن المقصود بالمقدسات الإسلامية هو فقط الأماكن المقدسة من قبل المسلمين، وهي تحديدا: المسجد الحرام في مكة المكرمة، المسجد النبوي في المدينة المنورة والمسجد الأقصى في القدس، فهذا الزعم يحتاج لقليل من التمحيص.

المسجد الحرام والمسجد النبوي، مؤسستان دينيتان تابعتان للمملكة السعودية، من حيث وضعهما القانوني، رغم كونهما قبلتين للمسلمين من كل بقاع الأرض. فالوظيفة الدينية التي تضطلعان بها، رغم عموميتها، لا تعطي الحق لأي دولة كانت في التدخل من أجل حمايتهما (من ماذا أصلا؟) أو التعديل في شكلهما أو في وظائفهما.

ولنتذكر أنه حتى في أحلك الظروف التي مر بها الحرم المكي، حين اقتحمه جهيمان العتيبي ومن معه سنة 1979، والمجزرة التي تلت ذلك، كان لا بد للمملكة السعودية نفسها، أن تصدر فتوى تجيز لقوات التدخل السريع الأجنبية، اقتحام الحرم لتحرير الرهائن. كما أنها لم تسمح لأي كان بالتدخل، باستثناء قوات خاصة من أمريكا وفرنسا، اختارتها بعناية.

أغلب الظن إذن، أن الدكتورة تتحدث عن المسجد الأقصى حصريا. والمشكلة هنا أعقد:

فالأقصى ليس مكانا عبادة مقدس لدى المسلمين لوحدهم. ومن يدفع بالعكس، فكأنه يدعو إلى أن يسطو المسلمون على كل الحمولة الرمزية للبقاع، مثلما سطت عليها فعليا، جيوش المسلمين تحت قيادة عمر بن الخطاب، رغم كونها هي الموطن الأصلي لظهور اليهودية وبعدها المسيحية.

لا أظن أن للفظ “الحماية”، في العبارة، علاقة بضمان سلامة المنشآت ولا حتى حق التعبد للجميع، بل إن المطلب هو إبقاء تلك الأماكن حكرا على المسلمين لوحدهم. وهذا ما يوافق، بالضبط، الدعوة إلى جعل القدس برمزيتها الدينية الكونية، عاصمة لدولة الفلسطينيين المسلمين دون سواهم.

عنجهية مقيتة، تستتر خلف مظلومية مفتراة.

التراجع في الخطاب الديني يشكل خطرا على هوية الأمة الإسلامية

وكأننا نقرأ مقالا أو تدوينة لنادية ياسين، “لالة فقيهتي”، نجلة زعيم جماعة العدل والإحسان الراحل.

وكأنها لم تكن يوما ما زعيمة حزب سياسي، يدعو في برامجه إلى “إعادة كتابة تاريخنا على أسس منهجية جديدة، تتوسل إلى العلم وفلسفة الحداثة”!

في الوقت الذي ينزع فيه كل الديموقراطيين والحداثيين، إلى فصل القضية الفلسطينية عن بعدها الديني، والتعامل معها كقضية تحرر شعب من الاحتلال، كما سلف، لإعطائها إشعاعا دوليا والترويج لها في كل المحافل الدولية، إن احتاج الأمر، تفضل الدكتورة الاستمرار في اعتبار القضية مسألة صراع وجودي مباشر، لا يضمن أحد طرفيه الاستمرار في الوجود إلا بانتفاء الطرف الآخر. لكنها، ومن سار على نهجها، في الوقت ذاته، يستغربون ويدينون بحماس عجيب، دعوات اليمين الإسرائيلي المتطرف، المطالب بأرض إسرائيل لشعب إسرائيل.

ثم إن الدكتورة تنسى بأن الإصرار على إقحام الخطاب الديني، بمناسبة أو بدونها، في القضايا المصيرية للشعوب العربية، لن يستفيد منه في النهاية سوى عرابو دولة الخلافة الإسلامية البائدة.

المناهج التعليمية وحتى خطب الجمعة أصبحت محاصرة، وهناك محاولات لتقليص دور الدين في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الأمة

مؤكد أن الدكتورة تقصد بالمناهج التعليمية، التعليم الديني على وجه التحديد. فهل المقصود من هذا الكلام هو إعادة الحياة للمدارس القرآنية، التي كان الحسن الثاني قد أوصى بتعميمها في كل ربوع المملكة، أم ما قام به فعلا المغراوي من فتح لسلسلة دور قرآنية على طريقة طالبان الثمانينات؟

علما بأن التعليم الديني في المغرب كان وما زال مرعيا من قبل الدولة، بدءا من جامع القرويين والمدارس التي شيدت في القرن الرابع عشر، ومازالت قائمة، مرورا بمعاهد لتدريس الفقه والحديث والشريعة، شيدت حديثا، وانتهاء بفتح شعبة لـ “الدراسات الإسلامية”، سيئة الذكر، في الثمانينات، في محاولة يائسة لمحاصرة العلوم الإنسانية وعلى رأسها الفلسفة.

فهل نعتبر أن الدكتورة تضم صوتها لأصوات الإسلام السياسي المطالب بتغيير المناهج التعليمية، بحيث ندرس للنشء مثلا، في مادة التاريخ، كيف أبيد يهود الجزيرة، وكيف كانت ترسل آلاف السبايا الأمازيغيات إلى العراق، وفي مادة التطبيقات، كيفية تغسيل موتى المسلمين؟

تقييد حرية الأئمة في الحديث عن القضية الفلسطينية، لا سيما فيما يتعلق بالدعوة إلى الجهاد

لو كانت الدكتورة ملمة ولو قليلا بمواضيع الشريعة والفقه، لأدركت أن الفقهاء أنفسهم، اختلفوا قديما، وما زالوا يختلفون اليوم، حول كل شيء. وما المذاهب المختلفة، داخل نفس المنظومة، إلا نتاج لتعدد الأفهام حول نفس القضايا المشتركة.

الخطاب الديني منفلت بالتعريف، بسبب عاطفيته وضبابيته. والدولة الحديثة، التي من أهم وظائفها ضمان التوازن بين كل السلط، لا يمكنها أن تطلق العنان لسلطة الخطاب الديني في المطلق، ودون أدنى تنسيق أو مراجعة.

سيما إذا ارتبط الأمر بموضوع الدعوة للجهاد. هذا المفهوم الهلامي، الذي لا تحد معناه حدود.

ولنفترض أن الدولة أطلقت العنان للخطباء لحض العامة على الجهاد، فهل سيكون لهؤلاء الخطباء، أم للعامة، أن يقرروا في شكل ومدى هذا الجهاد؟ أم سيطلب ساعتها من الدولة أن تسلح الناس وترسلهم إلى الحدود مع إسرائيل؟

ثم من هي الدولة المتاخمة لفلسطين، التي ستفتح لهم حدودها؟

إن كان معتوه الجارة الشرقية قد صار مؤخرا أضحوكة في العالم قاطبة، بسبب مطالبته لمصر بفتح حدودها للسماح لجيوشه ببناء ثلاثة مستشفيات في غزة، فهل نتصور أن دولة من إحدى دول الجوار ستسمح بالجهاد ضد دولة إسرائيل، انطلاقا من حدودها؟

وللدعابة السوداء فقط، فقد قرر مؤخرا مواطنان جزائريان بسيطان صدقا هرطقة رئيسهما، التسلل عبر تراب مصر إلى غزة، للجهاد. وبعد اعتقالهما من طرف السلطات المصرية وإعادتهما إلى بلدهما الأصلي، حوكما بتهمة الإرهاب، وزج بهما في السجن لثلاث سنوات قادمة.

سؤال أخير: الجهاد المروج له يسمى فقهيا: جهاد الدفع. لأن غايته هي رد العدو الغازي عن أرض المسلمين. والحال أن الإسلام يفرض على المؤمن أيضا، أن يبادر إلى جهاد الطلب، أي طلب العدو في عقر داره.

فهل تتفق الدكتورة مع مؤدى هذا الكلام أيضا، أم أنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض؟

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *