محمد محاسني: بالمرصاد… للإلحاد
المنهج العلمي ينبني على الشك في كل المسلمات، وعلى اعتماد الدليل المادي والتجربة المتكررة التي تفضي إلى نفس النتائج، لتبني أو رفض أية فرضية كانت، في حين أن الإيمان ينبني على التسليم القبلي وحده كأساس للاقتناع بفكرة ما.
الإيمان إن أمكن الاستدلال عليه علميا، سيتوقف عن كونه إيمانا من الأصل. وحينها… قد لا نحتاج لإيديولوجيا: بالمرصاد… للإلحاد
انعقد في الأيام القليلة الماضية، بالرباط، مؤتمر، تحت شعار “الإيمان في عالم متغير” نظمته الرابطة المحمدية للعلماء ورابطة العالم الإسلامي؛ تباحثت خلاله، ثلة من المهتمين بالشأن الديني، من مغاربة وعرب وأجانب يمثلون ديانات أخرى غير الإسلام.
قبل الخوض في تفاصيل أشغال المؤتمر، أود أن أشير إلى أنه تعذر عليّ الوصول إلى أية معلومات بشأن هِؤلاء الأجانب، غير المسلمين، المشار إليهم، لا في جريدة هسبريس، عدد الأربعاء 16 أكتوبر 2024، ولا في أي موقع آخر من المواقع التي غطت فعاليات هذا الملتقى.
كما تعذر علي الوصول إلى الوثيقة الأصلية الكاملة، المتضمنة لتفاصيل كل المداخلات التي أدلى كل المتدخلين في هذا الحدث “المتميز”.
كل ما تحصل لدي في النهاية، هو تغطية جريدة هسبريس لتدخلات مفصلة إلى حد ما، لأربعة من المشاركين، كلهم مسلمون، ولحضور رمزي للسيد مختار جمعة، وزير الأوقاف المصري السابق.
إضافة إلى تقرير موجز جدا للتوصيات التي تمخضت عن هذا المؤتمر، نشر على موقعي الرابطتين المنظمتين لأشغاله.
التوصيات تميزت إجمالا، بالإطناب، وبالضبابية والعمومية اللتان أحالتاها إلى مجرد شعارات عاطفية فضفاضة، قد يكون التفصيل فيها من قبيل هدر وقت القارئ.
وقد يكون من الأفيد بالمقابل، مناقشة بعض أهم ما ورد من أفكار في المداخلات الأربع المشار إليها أعلاه، باعتبارها أفكارا صادرة عن متخصصين في الشأن الديني، عارفين بمجمل التحديات التي يواجهها المجتمع الإسلامي اليوم، ومؤهلين لاقتراح أنجع الحلول، لمواجهة تلك التحديات.
المتدخلون كانوا على التوالي:
أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.
عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي.
محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
سالم بن محمد المالك، المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو.
وقد تمحورت تدخلاتهم جميعا، حول تبيان أسباب ومظاهر انتشار الإلحاد في صفوف الشباب من جهة، واقتراح سبل مواجهة هذه الظاهرة، صونا لـ “الأمن الروحي” للمجتمع الإسلامي، من جهة أخرى.
1- أسباب انتشار الإلحاد:
وورد أن أهمها هو:
– “الاصطدام بوهج العلم”، حيث اثبت الأخير قدرته على فهم قوانين الطبيعة والتحكم فيها بنجاعة وفاعلية كبيرتين.
– الفلسفة الحديثة، التي استكشفت الديناميات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبلورتها على صعيد الواقع.
– قصور التمثيليات الدينية عن مواجهة هذه التحديات .
– مُفتون جُهّال (مبنون للمجهول) أدوا إلى التنفير من المنظومات الدينية بشكل عام، وكانوا سببا مباشرا في الترسيخ لفكرة تعارض الدين مع العلم.
– دعاية شديدة ضد الدين وجب تفنيدها.
– وقوف القائلين بالإلحاد عند منشأ الحياة من الخلية، وعدم الالتفات إلى ما وراء مثل هذا المخلوق من خالق موجد، صمم الكون البديع، بانتظام مدهش، لا محل “لرمية نرد” فيه.
– التعليم (المعبر عنه بالمدارس) الذي صار يلتهم وقت الناشئة بوابل إنتاجه المغري المثير، والوالدان منشغلان عنهم.
2- وسائل التصدي لانتشار “موجة” الإلحاد، وأهمها:
– إنشاء مرصد، على أحدث طراز، يضم خبراء، هم قامات علمية (ٍعلماء العرفان والبيان والبرهان وفق تعبير أحدهم)، بهندسة منتجة ووظيفية، وله منصة تفاعلية تفيد من أحدث ما هو موجود في الجانب الرقمي.
– التنسيق لإنشاء تحالف إيماني دولي، توحيدي، وبث تسجيلات لأصوات إيمانية من الدول الكبرى، وحفزها على كتابة تجاربها الذاتية.
– تعزيز التربية الإيمانية للناشئة، والحد من كل مناهج تتغول على براءتهم وفطرتهم المؤمنة.
– تقصي الوجهات المشيعة لأفكار الإلحاد، ومجابهتها بشتى وسائل المكافحة المستندة إلى القانون محليا وعالميا
– الحجة على من ينفي وجود الخالق لا المثبت، ليواصل أهل العلم والإيمان رد شبهات الإلحاد بالبينات والزبر (الكتب المقدسة)
– كثير ممن نسبوا للإلحاد لم يكونوا ملحدين بمعنى إنكار وجود الخالق. وستيفن هوكينغ في نهاية حياته، على قناة (سي إن إن) لم يستطع إنكار وجود الله، بل أجاب بأنه قد يكون موجودا.
– المشتغلون اليوم بصيانة الإيمان ودفع الشبهات، عليهم سلوك طريق نبي الله إبراهيم، الذي فر في النهاية إلى الله تعالى، ليجد ثبات الإيمان.
عن الأسباب…
هناك تشابهه مدهش لما ورد في هذا المحور، مع محاولات سابقة كثيرة مكرورة، من حيث النزوع إلى إضفاء طابع الطهرانية على الذات، والإلقاء بالمسؤولية على أي طرف كان، سوى نفس الذات.
فاعتبار العلم والفلسفات ووسائط التواصل الاجتماعي مثلا، أسبابا كافية لانتشار الإلحاد، هو مجرد مزايدة، ذلك أن هناك علماء وفلاسفة وصناع محتويات، مؤمنون حتى النخاع.
أما الشيوخ المتطرفون، فلا أظن أن المحدثين منهم، يمكن أن يكونوا أكثر تطرفا من ابن تيمية وابن عبد الوهاب، مرورا بالقرضاوي وانتهاء بالشيخ حسان وغيره كثير.
لكن الأشد فداحة، هو أن يتهم شخصٌ المدرسةَ بكونها إحدى روافد الإلحاد؛ ولعل المدعي يدين، تحديدا، المواد العلمية التي يتلقاها النشء، والتي تتعارض مع الكثير من المسلمات الدينية. وعلى رأسها، طبعا، كروية الأرض ونظرية التطور. وهو ما يذكر بترهات بالفقيه الذي أفتى بأن تدرس للناشئة كل العلوم الحديثة، شرط أن نذكرهم دوما بأن الهدف من ذلك لا ينبغي أن يتعدى اجتياز الامتحانات بنجاح، لأن تلك العلوم، في النهاية، لن تنفعنا في لقاء ربنا يوم الحشر.
والأشد فداحة أن يؤاخذ الرجل الوالدين بالانشغال عن الناشئة، علما بأن أغلبهم لم يدرس تلك المواد أصلا، ولا أهلية له في غربلة ما ينفع وما لا ينفع أبنائهم، مما درسوه.
حين يتحدث المتدخل عن الدعاية ضد الدين، فهو بالتأكيد يتحدث عن الإسلام تحديدا. تماما كما يتحدث الدعاة اليوم عن قانون ازدراء الأديان، وهم يقصدون ازدراء الإسلام، لا غير. لأن أتباع الديانات الأخرى، حسب علمي، لا يلتفت أغلبهم إلى الانتقادات ولا حتى للتجريح الذي يمكن أن يطال دياناتهم.
الدعاية، أصلا، سرعان ما تتهاوى وترتد على أصحابها، إن لم تجد لادعاءاتها مبررات في مشاكل ونواقص في البناء المنطقي والمفاهيمي للنظرية المدعى عليها. والتصدي للدعاية يجب أن تسبقه مسائلة عميقة للذات، ومراجعة جريئة لما يعتورها من مثالب. أما الاستمرار بعناد في لعن صورتنا في المرآة كل صباح، فلن يؤدي بنا إلا إلى المزيد من الخيبات والانكسارات.
أمر عجيب أن يطلب من الملحد التسليم بأن هناك خالقا للخلية، علما بأن الأدوات المعرفية التي سيعتمدها للتوصل إلى أن الحياة نشأت عن الخلية الواحدة، لن تسعفه أبدا في القفز إلى استنتاج كهذا.
المنهج العلمي ينبني على الشك في كل المسلمات، وعلى اعتماد الدليل المادي والتجربة المتكررة التي تفضي إلى نفس النتائج، لتبني أو رفض أية فرضية كانت، في حين أن الإيمان ينبني على التسليم القبلي وحده كأساس للاقتناع بفكرة ما.
الإيمان إن أمكن الاستدلال عليه علميا، سيتوقف عن كونه إيمانا من الأصل.
عن سبل المواجهة
إنشاء مرصد على أحدث طراز، مدجج بعلماء الدين، مهما تعزز بالرقمنة وحتى الذكاء الاصطناعي، سيؤدي إلى نسخة مكرورة من المراكز والجمعيات المنتشرة حول العالم، والتي لم تنتج في النهاية إلا مدارس قرآنية وأشرطة كرتونية عن السيرة النبوية، وبرامج دينية لا يشاهدها أحد.
يذكرني هذا الكلام بمؤسسة آل سعود التي استقطبت، في السبعينيات، بضع علماء مغمورين، بالإغراء تارة والتحايل طورا، للإدلاء بشهادات تفيد أن العلم الحديث، يطابق تماما ما جاء في بعض الآيات القرآنية.
فكان أن انقلب البعض على تصريحاته بعد حين، وأن أدان البعض الآخر التحايل البغيض للزنداني ومن معه، وفضل قلة منهم القبض والتواري.
أما عن التحالف الإيماني الدولي، فهو من النكث السمجة التي أسفر عنها المؤتمر. فكل ما يجمع بين الإسلام والمسيحية واليهودية، هو فكرة التوحيد. غير ذلك، فكل دين ينبني بالضرورة على اعتبار غيره ضلالا. وإلا لماذا إله واحد، وديانات عديدة؟
أبلغ مثال على ذلك، هو ما أسر به أحد المتدخلين، حين قال: “قبل سنة، أرسلنا رسالة إلى عالم بريطاني حاصل على جائزة في الفيزياء، فكتب لنا ردا من جملة واحدة يقول: إن الأديان من أسباب الحروب، فلا داعي للحضور معكم في منتدى تعزيز السلم”.
تعزيز التربية الإيمانية للناشئة، معناه العودة إلى التعليم الأصلي، بل الأصولي. سيما إن اقترن بالتضييق على المناهج العلمية الحديثة.
دعا أحدهم إلى تقصي ناشري أفكار الإلحاد، ومجابهتهم قانونيا. والجملة تعني بالواضح: ضرورة سلك طريق الردع في مواجهة الملحدين المجاهرين بذلك. ويبدو أن المتكلم قد ضاق ذرعا بعجز دلائله المعلبة عن مسايرة قوة منطق المعترضين. فآثر الدعوة المبطنة إلى تعميم قانون ازدراء الأديان، باعتباره أقصر الطرق لإخراس تلك الأصوات، واقتصادا للجهد المبذول في المحاولات اليائسة للإقناع العقلي “الهادئ والرصين”.
“الحجة على من ينفي وجود الخالق لا المثبت”. هنا يصل التغليط المقصود ذروته. إذ المفروض أن يكون المتدخل على علم بأن العبارة إياها، مثال صارخ على ما يسمى بمغالطة عبء الإثبات.
فالمعروف، حتى فقهيا، هو أن البينة على المدعي، لا العكس. والمدعي هنا هو من يقول بوجود الشيء، لا من ينكره.
أخيرا وبخصوص إلحاد بعض العلماء، لا بد من توضيح بعض البديهيات.
لا علاقة للعلم بفكرة وجود إله من عدمه.
العلم لا يضع ضمن أهدافه ضرورة إثبات أو إنكار وجود خالق لهذا الكون، بل ينصرف إلى محاولة فهم القوانين الذي يتمظهر الكون وفقها.
وإن كان هناك من تعارض للعلم، فهو مع الديانات تحديدا. إذ أن هذه الأخيرة تنطلق من تصورات فيزيائية، فلكية وطبية وغيرها، أثبت العلم بدائيتها وقصورها الشديدين.
الإلحاد لا علاقة له بكل هذا. وهو ليس اختراعا علميا ولا فلسفة ولا دينا جديدا. بله مجرد موقف شخصي من الوجود الإلهي، ظهر بظهور محاولات الإنسان الأولى لإيجاد معنى لوجوده، ولأصله ومصيره، وما زال يتمتع بكامل مشروعيته، في ظل غياب أجوبة حاسمة في الموضوع، غير التأمل و “القياس العقلي”..
إصرار عرابي الديانات المختلفة على ربط الإلحاد، قسرا، بالعلم، أو بأي منظومة فكرية أو فلسفية أخرى، مرده إلى محاولة إيجاد ثغرات في تلك المنظومات، يمكن الاستدلال بها، على أن “حقائق” الديانات مطلقة، وأن كل اعتراض عليها، هو محض قصور لدى المعترضين وليس بسبب قصور أي من تلك الديانات.
الكثير ممن يراهنون على أن إنشتاين وستيفن هوكين وغيرهم، مؤمنون، لأن بعضهم لا يستبعد إمكانية وجود “سبب أول للوجود”، ينسون بأن حتى الربوبيين، وهم الأقرب للإيمان من الملحدين، يستبعدون أي احتمال لأن يكون ذلك السبب الأول، هو الإله الإبراهيمي المذكور في “الزبر”.
بالمناسبة، هناك أيضا، القرآنيون (الملحدون مع وقف التنفيذ)، الذين يشتركون مع بني جلدتهم العقدية في المبدأ العام (القرآن)، لكنهم يختلفون معهم في كل التفاصيل الأخرى، وأهمها رفضهم التام لصحيح الأحاديث، ولغالبية التفاسير المعتمدة للقرآن.
أليس هؤلاء، مثلا، أدعى لمحاولة الإقناع، من الملحدين؟
أليس الأولى بنا النظر إلى الذات أولا، بقدر معقول من التواضع العقائدي والمعرفي، والكف عن الصراخ الدائم عاليا، غالبين أو مغلوبين؟