الرقية الشرعية، من طقس سلفي دعوي إلى تجارة بالله والرسول 2/1
في سوق “الرقية الشرعية”، احتل “الفقهاء” مكانة الفيلسوف والعالِم في الممارسة الطبية والعلاجية، وانتشرت مفاهيم البركة، السر، النية، الولاية، والهبة…
ثم… تحول كل شيء فجأة، إلى تجارة قائمة الذات، قامت بتسليع المعتقد، وحولت المقدس إلى مجرد بضاعة تخضع لقانون السوق.
يزداد الهوسُ عند عامة الناس باتباع دعاة الطب البديل من رقية شرعية وعلاج بماء القرآن وبالصَّرَعْ وغيرها. شكل الأمر، في لحظة ما، ما يشبه نزوحا جماعيا لدى فئات كبيرة، أقبلت على هذا النوع من “التداوي” الذي يجد له امتداداً عند فئات كثيرة من المجتمع.
مقاربة العلاج الروحي أو الطب الطبيعي والبديل، يتداخل فيها العُرفي بالديني بالأنثروبولوجي بالسيكولوجي وبنية المجتمع وطبقاته. ارتبط العلاج الطبيعي بعمل الفقهاء ورجال الدين الذين امتهنوا هاته المهن من قبيل التطبيب بالأعشاب والحجامة وغيرها.
الفقه بدل الطب
يعتبر الدكتور عياد أبلال، الباحث في الأنثروبولوجيا والأستاذ الجامعي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بفاس، أن الطب الشعبي قديم جدا في المنقطة، أَخَذَ، بعد أفول الحضارة، أبعادا خاصة بعد التصاقها بالفقهاء ورجال الدين، بعدما كانت مرتبطة بالعلم والفلسفة مع والرازي والزهراوي و الكندي وابن الهيثم … وهم فلاسفة وعلماء، أثروا بشكل كبير في الطب الحديث، حيث كان يستند على الممارسة العلمية والبحث المخبري.
خلال الفترة المذكورة، لم يكن هناك حديث إطلاقا لا عن طب نبوي ولا روحي ولا رقية شرعية، بالرغم من أن العلاج والتداوي كانت مرتبطا حينها بالأعشاب والموارد الطبيعية، فإن الطب حينها كان متقدما علميا على مستوى خلط المقادير، وتحديد أثر كل مكون على حدة.
تدهور الحضارة العربية الإسلامية جعل الفلسفة والعلم يتواريان ليحتل التدين مكانهما، والمقصود هنا ليس الدين، بل التدين.
احتل الفقهاء مكانة الفيلسوف والعالِم في الممارسة الطبية والعلاجية. ومع انتشار حركة الزوايا في المنطقة، سرعان ما انتشرت مفاهيم البركة، السر، النية، الولاية، والهبة، وهي مفاهيم ارتبطت في السجل الديني التصوفي بالفقهاء باعتبارهم “ورثة الأنبياء”.
يقول الباحث الأنثروبولوجي: “بما أن المستشفيات لم يعد لها مكان، فإن التداوي رجع إلى ممارسات بدائية، وعلى رأسها الطب الشعبي، الذي سرعان ما اتخذ صبغة دينية وروحية، حيث برز ما يسمى بالطب النبوي، وهو التداوي بالأعشاب التي كانت متوفرة في شبه جزيرة العرب في عهد الرسول، من قبيل العسل، والحبة السوداء، وحب الهيل، والقرنفل، والزنجبيل. ثم انتقل بعد ذلك، وخاصة في الثمانينيات من القرن الماضي، مع انتشار الإسلام السياسي وانتعاش السلفية الوهابية في صفوف الطبقات الفقيرة، إلى ما يسمى بالطب الشرعي، حيث برزت الرقية الشرعية، على اختلاف طرقها”.
الرقية: طقس وهابي دعوي
ما أورده الباحث الأنثروبولوجي عياد أبلال نجد له امتدادا عند يونس الوكيلي، الأستاذ الباحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي، جامعة محمد الخامس في الرباط، والمتخصص في الأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا الإسلام. أبلال يقول، في حديثه لمرايانا، إن الرقية الشرعية ممارسة دينية تعتمد الكلام المقدس من آيات قرآنية وأدعية نبوية في العلاج والتداوي.
حسب يونس الوكيلي، مؤلف كتاب “أنثروبولوجيا الشفاء”، فإن “الرقية ليست طبا تقليديا ولا طبا حديثا، رغم أن أصولها موجودة في التراث الديني، إلا انها أخذت تمظهرا جديدا في العقود الأخيرة بفعل إعادة استعمالها من طرف إيديولوجيات دينية مثل السلفية الوهابية التي وظفتها في دعوتها الدينية منذ الثمانينيات”.
انتشرت ممارسة ما يسمى بالطب الشرعي في الأوساط الشعبية الفقيرة بالدرجة الأولى، وهو ما تحول معه التدين التعبدي كما مارسه وعاشه المغاربة، في سياق المذهب المالكي الأشعري وصوفية الجنيد، إلى تدين سلفي وهابي طقوسي وكرنفالي.
حسب الباحث الأنثروبولوجي، عياد أبلال، فإن تعيين شبكة الأمراض التي استدعت ما يسمى بالرقية الشرعية، يقودنا إلى التداخل بين الرقية الشرعية والطب كعلم وممارسة عقلانية، مستندين في ذلك، لأفعال الرسول حين رقى نفسه، وكما جاء في سورة الإسراء الآية 82: “وَنُنـزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ”.
غير أن تأويل الآية وواقعة رقية الرسول لنفسه، لا تعني الرقية الشرعية، كما هي ممارسة اليوم، ذلك أن قراءة القرآن يسعى فيها المسلم إلى تقوية نفسه وعزيمته على قهر كل ما يمسه من سوء، لأن قراءة القرآن في ظل الإيمان عملية سيكولوجية على مستوى الاستشفاء روحياً، ولكن أيضاً بالبحث عن الأسباب والسعي نحوها، والقوة النفسية الضرورية لكل علاج، لا تتولد بوساطة شخص الراقي، بقدر ما تكون نابعة من المريض نفسه.
الرقية: تجارة بالله والرسول
يؤكد أبلال أن ممارسات الرقية الشرعية الآن، هي عبارة عن ممارسة تجارية، يتم فيها استغلال ثقة الناس، وتوظيف عملية الإيحاء السيكولوجي لإضفاء شرعية على هذه الممارسات وزيادة انتشارها. وهي ناتجة بطبيعة الأوساط الاجتماعية التي تنتشر فيها. هذا دون ذكر استغلال بعض الرقاة جنسيا واجتماعيا واقتصاديا لمرضاهم أو زبوناتهم من النساء، وهو ما يقيم الدليل على بعد هذه الممارسات عن العلاج الروحي.
خلصت دراسة ليونس الوكيلي (منشورة بمجلة هيسبريس تمودا)، إلى أن الرقية الشرعية تقدم نفسها كبديل عن الممارسات العلاجية المحلية، وهذه الغاية مبثوثة في كل كتب الرقية الشرعية بوضوح تام منذ أول كتاب ألف في هذا الحقل، وهو كتاب “وقاية الإنسان” لوحيد عبد السلام بالي، كما تقدم نفسها كذلك، بوصفها ممارسة تسعى في غايتها النهائية إلى إعادة الإدماج الديني للمريض في المعتقدات والطقوس الدينية بمعناها السلفي الوهابي.
حسب تعبير “الرقاة”، يصبح العلاج من “أمراض الجن”، حسب الدراسة ذاتها، عملية تقويض للأساليب العلاجية المحلية التي تتغذى من عناصر التدين المغربي السائد، وفي الوقت نفسه مدخلا إلى إحلال نمط جديد من التدين، ومعملاً لإنتاج معنى جديد للدين والمجتمع والعلاقات.