علي الوردي… ابن خلدون العراق!
كان عالم الاجتماع العراقي، علي الوردي، نموذجا مثاليا للمثقف كما ينبغي له أن يكون… كانت آراؤه تنويرية وأفكاره الاجتماعية جريئة، بيد أنها قوبلت بانتقادات لاذعة، وبما هو ألذع من طرف السلطة السياسية، كما نتابع في هذا البورتريه.
كان عالم الاجتماع العراقي، علي الوردي، نموذجا مثاليا للمثقف كما ينبغي له أن يكون… كان رائد السوسيولوجيا في بلده، بل أبا مؤسسا لها؛ ذلك أنه أول من وضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي وشخصية أفراده…
كانت آراؤه تنويرية وأفكاره الاجتماعية جريئة، بيد أنها قوبلت بانتقادات لاذعة، وبما هو ألذع من طرف السلطة السياسية!
في هذا البورتريه، نقف عند بعض من أبرز محطات حياة علي الوردي.
أبصر علي الوردي النور في مدينة الكاظمية، شمال بغداد (العراق)، ذات يوم من عام 1913. اسمه الكامل، علي حسين محسن الوردي، ولقب الوردي هذا؛ نسبة إلى جده الأول الذي كان يعمل في تقطير ماء الورد.
لظرف ما، انقطع الوردي عام 1924 عن الدراسة ليعمل صانعا لدى أحد العطارين. لكنه طرد بعد فترة لأنه لا يأبه للزبناء، ذلك أنه ينشغل بقراءة الكتب والمجلات، فكان أن فتح دكانا صغيرا خاصا به.
كان الوردي على موعد مع مسار جديد في حياته، حين عاد عام 1931 للدراسة بالصف السادس الابتدائي. ثم ما لبث أن ظهرت عليه أمارات النبوغ بحيازته للمرتبة الثالثة في العراق يوم أتم دراسته الثانوية.
اقرأ أيضا: عبد الكبير الخطيبي… “الغريب المحترف”
إنجاز سيفتح للوردي آفاق الدراسة خارجا؛ إذ ابتعث للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت حيث حصل على شهادة الإجازة (باكالوريوس) في التجارة والاقتصاد، وبعد ذلك إلى جامعة تكساس الأمريكية، حيث سينال عام 1947 شهادة الماجستير.
يرى البعض أن الوردي كان أول من دعا إلى “علم اجتماع عربي”، يدرس المجتمع العربي في خصوصياته الجغراثقافية، انطلاقا من طروحات ابن خلدون… كان الوردي يرى في ابن خلدون منظرا حقيقيا ودارسا متمعنا لما سماه “المجتمع العربي”، وقد تأثر به كثيرا في كتاباته.
مشوار جامعي أنهاه بنيل شهادة دكتوراه في الجامعة ذاتها عام 1950، بتقدير امتياز، عن أطروحته “التحليل الاجتماعي لنظرية ابن خلدون”. يومها، كرمه حاكم الولاية شخصيا لتفوقه، كما يروى أن رئيس الجامعة قال له: “ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع”.
الوردي بعد ذلك عاد إلى بلده، العراق، وعين مباشرة كمدرس لعلم النفس الاجتماعي في كلية الآداب بجامعة بغداد، فراح يتدرج رويدا رويدا حتى حاز لقب الأستاذية. بحلول عام 1963، عين رئيسا لقسم علم الاجتماع في الجامعة ذاتها.
اقرأ أيضا: جاك بيرك: ترجم القرآن وأوصى بنسخة في قبره 2/2
ظل الوردي يمارس مهامه باقتدار، إلى أن سحبت منه الجامعة لقب الأستاذ المتمرس، عام 1989، على إثر آرائه وأفكاره المتعلقة بالدين ودمقرطة السلطة… ثم كانت مكافأته المنع من السفر والتهميش وسحب مؤلفاته من المكتبات تحت طائلة ما سمي بـ”السلامة الفكرية”.
من رائد علم الاجتماع إلى عالم مهمش ومغضوب عليه!
كان علي الوردي أحد رواد علم الاجتماع في العراق، ما لم يكن الأول الذي نذر حياته لدراسة شخصية الفرد العراقي وطبيعة المجتمع العراقي… أبحاث بها ذاع اسمه واسعا في الأوساط العربية والعالمية.
إسهامات علي الوردي يمكن تقسيمها إلى مرحلتين؛ ما كتب منها قبل ثورة 14 يوليو/تموز 1958، وما كتبه بعدها. قبل ذلك، لا بأس من الإشارة إلى أن علي الوردي كان غزير التأليف؛ كتب مئات البحوث والمقالات، وثمانية عشر مؤلفا.
مؤلفات نقرأ من بينها: “مهزلة العقل البشري”، “وعاظ السلاطين”، “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي”، و”شخصية الفرد العراقي”.
اتسمت كتابات الوردي قبل الثورة بأسلوب أدبي نقدي، وبمضامين تنويرية جديدة. لكنه، نظير أفكاره الاجتماعية الجريئة، تلقى انتقادات لاذعة بخاصة عن كتابه “وعاظ السلاطين”.
أما بعد الثورة، فقد كانت كتابات الوردي ذات طابع علمي محض، رام من خلالها وضع نظرية اجتماعية حول المجتمع العراقي… كتابات أبرزها آخر ثلاثة مؤلفات أشرنا إليها أعلاه. كان الوردي يعتبر دراساته هذه ممهدة لما هو أكبر: دراسة ما أسماه “المجتمع العربي”.
اقرأ أيضا: إذا طالع العرب أنفسهم في مرايا يابانية، فهذا ما سيرونه… (الجزء الأول)
هكذا، يرى البعض أن الوردي كان أول من دعا إلى “علم اجتماع عربي”، يدرس المجتمع العربي في خصوصياته الجغراثقافية، انطلاقا من طروحات ابن خلدون. الوردي، في الحقيقة، كان يرى في ابن خلدون منظرا حقيقيا ودارسا متمعنا لما سماه “المجتمع العربي”، وقد تأثر به كثيرا في كتاباته.
سحبت منه الجامعة لقب الأستاذ المتمرس، عام 1989، إثر آرائه وأفكاره المتعلقة بالدين ودمقرطة السلطة… ثم كانت مكافأته المنع من السفر والتهميش وسحب مؤلفاته من المكتبات تحت طائلة ما سمي بـ”السلامة الفكرية”.
من جملة ما وصل إليه الوردي في دراساته، أن شخصية الفرد العراقي تعاني من الازدواجية؛ إذ يهيم بالمثل العليا بينما ينحرف عنها في حياته الواقعية. يقول الوردي أيضا إن المجتمع العراقي يقع على هامش البداوة والمدنية معا. بتعبيره الخاص، فإن المجتمع العراقي “يرقص رقصة عشائرية ويغني أغان مدنية، والخلاصة نشاز”.
إجمالا، كان الوردي يرى أن أعطاب المجتمع العراقي يمكن معالجتها بثلاثة أنواع من الفعل؛ إزالة الحجاب عن المرأة ورفع مستواها وإدخالها إلى عالم الرجل لكي تتوحد القيم، وتقليل الفرق بين العامية واللغة الفصحى، وتهيئة رياض أطفال يعد فيها هؤلاء لحياة صالحة تحت إشراف مرشدين أكفاء.
اقرأ أيضا: محمد عابد الجابري… المفكر الذي وضع العقل العربي على مشرحة النقد 2/1
الوردي، بالمناسبة، كتب سيرة حياته في مؤلف أسماه “سينما بغداد”، لكن مخطوطتها ضاعت في ظروف غامضة وفق البعض، ككتب أخرى صرح قبيل موته بأنها ستنشر بينما لم يظهر لها أثر بعد.
عانى علي الوردي آخر حياته الأمرين، كأنه لم يكفه التهميش ومحاولات الإفقار؛ فزاد طينه بلة مرض السرطان… بلة زادت بلَلا بالحصار الدولي الذي كان مفروضا على العراق آنذاك.
هكذا، لم يتمكن الأطباء العراقيون من معالجته لافتقار المستشفيات العراقية حينذاك إلى الأدوية بسبب الحصار، فسمحوا له بالسفر إلى الأردن ليتلقى العلاج هناك، لكن دون جدوى.
عاد الوردي إلى العراق يائسا منتظرا نحبه، الذي لاقاه في الـ13 من يوليو/تموز 1995، ثم أقيمت له جنازة كانت وفق البعض، محتشمة، لم ترق إلى قامته وإسهاماته العلمية.