من جحيم غزة: لقمةٌ تائِهةٌ مُغَمَّسةٌ بالدم
يحاول الفلسطينيون في شمال غزة تدبير طعامهم، مما تبقى من مؤونة بيوتهم، أو ما استطاعوا انتشاله من أنقاضها، أو من خلال مبادلة الطعام مع الجيران، أو المقايضة، أو ممّا توفره التكيات من أطعمة يتبرع بها فاعلو الخير.
لقد حاربَنا الاحتلال بالسلاح، ثمّ وجدَنا أحياء، فقرر أن يقتلنا جوعًا، وبعد أن اعتدنا صوت الأطفال الخائفين من المقتلة، صرنا نسمع بكاءهم جائعين، يريدون “خبزة”… وصار الناس يتسوّلون -بكلّ ما في الكون من مهانةٍ وحزنٍ- الخبز، رافضين أخذ المال حتى من بعضهم البعض.
الأمان في غزة وهمٌ وسراب، وآلة القتل تجزّ كل ما يقع تحتها من إنسانٍ أو حجرٍ أو شجرٍ أو بهيمة. أرهقتنا اتصالاتُ المخابرات الإسرائيلية طيلةَ الحرب وهي تطالبنا بضرورة إخلاء منطقة شمال غزة، والتوجه نحو جنوب الوادي، باعتباره منطقة آمنة. لكنّ النزوح مأساةٌ تتلوها مأساة، والخيمةُ قبرٌ ثقيلٌ يقبع فيه اللاجئ دون إرادة، والنازحون فيها يحملون أرواحهم على أكفّهم، يموتون قهرًا من هول ما يرون، ويلبسون أكفانهم البيضاء في انتظار قيامة تعيدهم إلى الشمال.
والخيمة عهدٌ قديم كُتِبَ على أهل فلسطين، وشيءٌ من ميراث الأجداد، تتناقله الأجيال عنوةً دون رِضاً ولا اختيار. قطعةٌ من قماش أو نايلون، مختومةٍ باسم داعميها، تلفحُ قاطنيها في البرد القارس وتلسعهم بالشمس الحارقة، وتقتلهم بالصواريخ الفتّاكة، فلا أسهل من أن تُقتَل في خيمةٍ بين السماء والطارق. لا يعرف الخيمة إلا من جربها، ويستطيع أن يصفها لكم أكثر مني، إذ “ليس من رأى كمن سمع”، وأسأل الله أن لا يدخلنا في هذه التجربة، وأن ينجينا من الشرير آمين.
سلاح الجوع
فصول الحرب لا تنتهي، وقد جرّب فينا الاحتلال هذه المرة كلّ صنوف العذاب، حتى وصل الأمر إلى تجويع من تبقى من أهل شمال غزة الصامدين الذين رفضوا الرحيل، وقاوموا التهجير بدمائهم، وبحطام بيوتهم، وببسالة معتَقليهم. كلّ البضاعة في شمال وادي غزة نفدت مع استمرار الحرب، وامتدادها الزمنيّ، ومنعت البضاعة من الوصول إلى الشمال، وإحرقت المخازن فيه، وأتلفت بتعمدٍ من قوات الاحتلال. كما أن معظم الأراضي الزراعية في الشمال قد جُرّفت بفعل تمركز الآليات العسكرية الإسرائيلية فيها، أو جفّ الزرع فيها بعد إبعاد المزارعين عنها، ومهاجمتهم واستهدافهم لمجرد الاقتراب منها. ويوشك الحصار التام على الشمال أن يسبّب في مجاعةٍ محتملة، إذ أصبح الكل يبحث عن الغذاء، سواءً الطحين أو بدائله من الأرز والمكرونة دون جدوى.
لولا أن الله منح شمال غزة النباتات البرية التي تنمو من تلقاء نفسها بعد الأمطار، مثل: “الخبيزة”، و”الحماصيص” و”الحميض” والسلق”، والتي شارف موسمها على الانتهاء، لكانت أعداد الميتين جوعًا أكثر بكثير. لقد أصبح الغزيون – اليوم- يأكلون ما وجدوا من حشائش الأرض، حتى لو نبتت فوق المقابر، أو تحت الرماد.
الكل يسألنا اليوم: كيف تدبّرون أموركم المعيشية في ظل الحصار المطبق؟ لم يدخل دولار واحد إلى شمال غزة منذ بداية الحرب، ولم تصل حبة قمح، أو شعير، أو ذرة ملح، أو عبوة حليب، أو كأس ماء إلى الشمال منذ الهدنة الهشّة التي انهارت في بداية كانون الأول/ديسمبر الماضي.
لقد ارتفعت أسعار البضائع المتوفرة -على ندرتها- بشكل جنوني، وغير مسبوق في تاريخ غزة كله، إذ وصل سعر كيلو الطحين أو كيلو الأرز إلى 100 شيكل أي ما يقارب (33 دولارًا)، أما كيلو البصل الأخضر فقد وصل إلى 80 شيكلًا أي حوالي 24 دولارًا. أما سعر كيلو الثوم الأخضر فقد وصل الى 40 شيكلًا أي حوالي (12 دولارًا)، أما كيلو الجزر فقد بلغ سعره 15 شيكلًا أي حوالي (5 دولارات). أما سعر لتر الزيت النباتي فقد وصل إلى 60 شيكلًا أي حوالي (20 دولارًا)، أما حبة البيض الواحدة فسعرها 7 شواكل أي (دولارين)، علبة الصلصة وصل سعرها إلى 20 شيكلًا أي حوالي 7 دولارات. ما ذكرته أعلاه هو المتوافر فقط، فالفاكهة أو الخضار أو البضاعة غير متوفرة تماماً.
يحاول الفلسطينيون في شمال غزة تدبير طعامهم، مما تبقى من مؤونة بيوتهم، أو ما استطاعوا انتشاله من أنقاضها، أو من خلال مبادلة الطعام مع الجيران، أو المقايضة، أو ممّا توفره التكيات من أطعمة يتبرع بها فاعلو الخير. لقد حاربَنا الاحتلال بالسلاح، ثمّ وجدَنا أحياء، فقرر أن يقتلنا جوعًا، وبعد أن اعتدنا صوت الأطفال الخائفين من المقتلة، صرنا نسمع بكاءهم جائعين، يريدون “خبزة”… وصار الناس يتسوّلون -بكلّ ما في الكون من مهانةٍ وحزنٍ- الخبز، رافضين أخذ المال حتى من بعضهم البعض.
طحين إختلط بالدم
ادّعى الاحتلال أننا حيوانات بشريّة، وحاول أن يثبت ذلك للعالم المتحضر المتشدِّق بحقوق الإنسان والحيوان، بأن أجبر الناس في الشمال على طحن أعلاف الدجاج والأرانب، وشعير الحمير، بديلًا عن القمح الذي قطعه عن الشمال بشكل تامٍّ، فأكلوه على مضض في محاولة للبقاء على قيد الحياة.
نحن مجتمع يعتمد بشكل رئيسٍ على الخبز في طعامه، وهو ما أصبح معدومًا. إذا كان الاحتلال قد سمح، في آخر أسبوعين، بدخول بعض الطحين، فإنه يتعمد قصف الفلسطينيين المنتظرين شاحنات الطحين، كان آخرها مجزرة الطحين على شارع الرشيد، حيث اختلط الدم بالطحين، وفدا أكثر من (117 شهيدًا) أرواحهم من أجل إطعام عائلاتهم.
لقد واجه عشرات الآلاف ممن تبقوا في الشمال بأيديهم العارية رصاص الاحتلال، وقذائف الدبابات على حاجز النابلسي ودوار الكويت؛ من أجل أطفالهم الذين فتحوا أفواههم للرياح، في انتظار لقمة العيش المغمسة بالدم، حتى اختلط دمهم الطاهر بتراب الوطن وخبز الأولاد، وكأن الفقدَ نصيبنا وقدرنا في هذه البلاد. فأي جريمة ارتكبها جائعٌ يرتقب قافلة المساعدات؟ وأيّ جنايةٍ اقترفها طفلٌ ليقضم خبزته المرّة بفم الحزن واليُتم؟ وأي خطيئةٍ فعلتها طفلةٌ كانت تنتظر عودة والدها محمّلًا بالطعام والطحين؟ وأي إثم ارتكبته امرأة لتحرّم الخبز على نفسها حين رأت جثة ابنها المحمول على كتف أخيه؟
كل ما في البلاد يدعو إلى الحسرة، ويجلب اليأس، ويجتري البؤس… لكن، كيف نيأس ونحن جميعًا ندرك أن ما يبدو طويلًا في حياة الأفراد، قصيرٌ في حياة الشعوب؟
هذه الحكاية ستنتهي، وسنقلب فصول الحرب، حتماً.
ينشر بالتزامن مع مدونة: themfadhel.com
*هيا فريج باحثة فلسطينية من غزة