مصطفى مفتاح يكتب: وغزة تشع في الليل البهيم نورا واتهاما
تقتحم فضاءَ ومشاهدَ السيرةِ الأخبارُ، ولا أقوى على السؤال: كم من الضحايا سيسقطون قبل وعي العالم بسقوطه المدوي؟ كم من الأشلاء والأطفال سنحصي قبل أن يشبع القادة الأشاوس من أمريكا و”بيكاسوس”؟
ولا أقوى على محاولة الفهم! تتكلم كبريات وكالات الأنباء عن حرب إسرائيل مع حماس ولا نتحدث عن فلسطين والصمود والمقاومة وننسى أن حماس هي من قلبت على العالم روتينه الأوكراني وحروبنا البئيسة ومسلسل التطبيع.
اعتاد جورج براك Georges Braque أن يستعمل فنه مسمارا يعلق عليه أفكاره حتى يمكنه تغييرها كي لا يصاب بمرض الفكرة الواحدة.
يلف الضباب الكثيف العقبات والأودية التي تليها ولا يبقى للرائي غير ما أتى به مِزْوَدُ بداية الرحلة. والأحداث-المآسي تنفجرُ تهشِّمُ مجرى الأيام وزيف الاطمئنان.
وغزة المخاطَبَةُ تبحث عن قطع الغيار تحت الأنقاض لتبيعها لمجلس الأمن وجمهورية أوكرانيا الأبية والأنترنت مقطوع والخوارزميات تحدد الأطفال والشيوخ بكل دقة رياضية القنص.
تفر مأساتي “بلا عزاء” لتجيب شاعرا مقيما هناك منذ ما قبل التلمود.
وفي غزة ينكسر الحاسوب والشبكة ومنصات “اكس” (تويتر سابقا) ولا حديث إلا على الهدن الانسانية.
ويندلع السؤال: هل بعد غد أو أسبوعين، سيبقى لالتزامي وسنين الرصاص حين لا تعرفني دميةٌ عالقة صامدة فوق أشلاء طفلةٍ لَمّا تنفَطِمْ بعدُ وبالكاد تمشي إلى حيث عطر المعقم والمخدر مفقود كالسماء والمطر.
لغة قديمة لم تجد لها شقًّا في قوارب الهجرة من الطوفان، لم تجد توأما، نُحْ يا نوحُ ونصال اليوم على النصال العنقودية ولا مساء، لا سماء غير الطائرات والدخان المضيء مِدْيةُ الحصاد المربع والمكعب والدَوَّارْ.
يا غزة، أيتها الجثة أين أوراقك الثبوتية؟ أين ذراعك الآخر؟ أين الزائدة الدودية؟ هيا خدي ما تبقى لك من أبيكِ وانصرفي إلى معبر آخر حتى ننهي الدوام بخير، فالدوام للدوام والدّوِيّ! بسرعة هيا!
“ولا تقل للطائرات أفٍّ فقد يسمعك ذكاء الوحش المنفلت من عقاله المدجج بالبارجات الراجمات الجارفات الطائرات المجنزرات الفوسفوريات والكاشفات”.
أعود إلى المسمار المستمر متسمرا في الخاصرة حيث لا فكرة ولا وزةً تتعلم الرقص الاستعراضي، أين النشيد؟ أين النبض؟ أين الجحيم؟
كنت صغيرا حرمته أمه من جديلة في قمة رأسه الحليق الخليق بهذا القرن الوحيد، تغرّبَ وسط رحلتي من الهزيمة حتى المحيط.
عدت إلى حيث ابتدأ افتتاني، تعلمت اللغات والموسيقى وروايات من الأدب واسترقت النظر وحزنت والمذياع ظلٌّ عالٍ ودفتر من الشعر والبحر و”لهب النقد البرولي…طاري” أطلَّ وطار أدراجه نحو الجسر الممتد بين التذكار والقرن الجاري والخزامى والشوق صبار لذيذ كالنبيذ والممنوع من التصريف لم يطرق أمسيتي.
جدول من الألغاز الرفاقية: أقايضك سطلا من الانبطاح بكيس من الصمود والجَلَدِ المعلّب كالذبالة والأجوبة المناسبة للتوباماروس، قبل انحراف تحريفيتهم من سهب الشرارات، كل إضمامة بمائة زهرة إلا نَيِّفاً من الغش الثوري المحترف، رجعت لأهلها كرمةٌ أو غيمةٌ أو جمرةٌ تعض على النواجذ والقلب قلبي والكبد.
برزخ من أحاسيس تدلهم، أينعت بياضاُ أخْضَرُه وبُنِّيُّهُ يكشف المكنون في جبين البحيرة المحتارة الموعودة بالزبد نرجسة ترنو غلالة بألوان طفولية، وزنبقات الوادي مدلاة أجراسُها متتاليةٌ لا منضودة ٌولا مطيعة الإيقاع خلخال جنية الاشتهاء في القمر.
زمرد رونق كالدموع والحنين. خد جبيني والتحاليل وأنسني الأطفال هناك في الحشاشة.
وغزة تشع في الليل البهيم نورا أو اتهاما
إني رأيت عالما يموت كل يوم يترنح يحشرج كالعجل ثم يخور ليولد عالم جديد منذ السابع من أكتوبر 2023.
رأيت عالما يموت بين الحقد والخو ف والانبهار بُمْفَتِرِعِه ممزِّقِ أوصاله. هذا غرب افتتن بالشرق فاغتصبه بعد أن كَوَّنه وهذا شرق افتتن بغربه فمات إربا إربا؛ نسي أسماءه ونساءه وأطفاله وأرضه وقلبه وما تبقى من قلبه وشعره والكبد وسدد انتحاره وانهزم.
رأيت عالما يموت في دمشق، بغداد، فاس والأندلس… يجهل فوق جهل الجاهلين من نفط إلى نكبة إلى التي تليه، واحترف المرثيات والحب العذري والفتك بالحلاج ولعاب الأساطير.
رأيت عالما من الحداثة المغربة والتقدمية النكوصية يداري خَرَفها كلبَ حراسةٍ على شعبها تضطهد النساء وتملأ القوارب بالشباب لعل البحر يرحم.
ثم رأيت عالما يولد، أرى عالما ينزع عمامة الفقيه ليهزم المغتصب، يخيفه ويغلبه بكل ما له من جبروت العلم الظالم بالذري والفوسفوري والعنقودي والبترولي. يهزمه بالذكاء والصمود والجلد.
رأيتني أموت… رأيتني أرى هناك بعض الضياء في الأطفال والخراب والأشلاء والدمار حين ينساني الشعر البليغ القاسي.
غزة تترك لنا عذاب الأسئلة وتهافت الأجوبة
ونسيح في الحياة لا تاريخ لنا غير الشعر الجاهلي والأنوار والجنوب ضلع أعوج للشمال الغربي حتى أستراليا. بل إن إبراهيم الخليل أصبح أبراهام، لعل وعسى يمنحون لقضايانا تأشيرة أطول قليلا من المعتاد.
وتقتحم علينا غزة جزيرة السكينة برملها البلوري وشمسه ونسيمها الملون بالقزح، فنهرول قبل أن يرتد منا الطرف إلى أمريكا أو فرنسا كي تفسر لنا ما الذي يقع.
وتقتحم فضاءَ ومشاهدَ السيرةِ الأخبارُ، ولا أقوى على السؤال: كم من الضحايا سيسقطون قبل وعي العالم بسقوطه المدوي؟ كم من الأشلاء والأطفال سنحصي قبل أن يشبع القادة الأشاوس من أمريكا و”بيكاسوس”؟
ولا أقوى على محاولة الفهم! تتكلم كبريات وكالات الأنباء عن حرب إسرائيل مع حماس ولا نتحدث عن فلسطين والصمود والمقاومة وننسى أن حماس هي من قلبت على العالم روتينه الأوكراني وحروبنا البئيسة ومسلسل التطبيع.
كم نتمنى أن نستفيق على تحقيق مدوٍّ يخبرنا أن هذا القنفذ “الأصولي” تآمر ضد حل “الدولتين”، وأن يأتينا من أخبار سلطة أوسلو ومن معها شيء مختلف قليلا من التنسيق القومي لكشف أسماء الفدائيين وقمع المتظاهرين ضد إسرائيل.
كم نتمنى أن يأتينا دليل واحد على أن فوز “حماس” في الانتخابات كان بالتزوير والإكراه. كم سنرتاح لأن ليس “في القنافذ أملس” وأن حركات الإسلام السياسي الفلسطينية كلها مع “داعش” و”القاعدة” في مقدمة معارك الذود الأقصى عن أسعار الغاز ومؤشر الميركاتو المقبل ووجدان العالم وما تبقى له من ضمير النفط حتى استيطيقا التطبيع.
أقول قولي: لن أكون مع الأصوليات التقليدية العتيقة الريعية التي تحرس مجلس الأمن الأمريكي، عين على روسيا والصين وعين على إحصائيات الهجرة من الجنوب.
من السهل الحديث عن “التقية” ومن اليسير أن نشهد أن الثورة ضد الشاه أتتنا بالملالي ومن الصعب أن نغفر لهم أنهم لم يبطشوا ولو جزءا من ألف مثل هيروشيما والنابالم وناميبيا والفصل العنصري والإبادة والاسترقاق ولو جزءا من مليون جزء مما اقترفه الغرب. ولم يحاصروا غزة.
لهم حساباتهم… لكن، بالمقابل، ليس في الثعابين التي تقوم أطراف الليل والآناء أقل سما وفتكا بالأشلاء ووكالة غوث اللاجئين، لكنهم لا يبخلون بالدعاء ملحا على جراحنا.