هادي العلوي: حلاج الشيوعيين… رحلة مفكر جمع بين التراث والجدل والتاريخ
كان هادي العلوي نتاجاً لبيئتين متضادتين مختلفتين، غير أنهما أنتجتا مفكرا كونيا، انفتح على الغرب وكتب عن تجارب غربية وعن الإسلام السياسي. آمن أن الانفتاح على الغرب مهم لإنتاج أفكار وبلورة رؤى تمضي بالإنسانية إلى الأمام.
ليسَ من السَّهل أن تمزج بين الشيوعية والتراث، أن تقرأ الماركسية وتحلِلَ بـ “الدياليكتيك”، وفي الوقت ذاته، تكونَ مولعا بقراءة التراث الديني وتقرأ القرآن وتفاسيره. هذا قد يبدو للباحث أو المُثقف صعبا، لكنه عند هادي العلوي أمر سهل. كان هادي نموذج المثقف العضوي المناضل الذي غادرت روحه لتبقى ذكراه.
“ولمَّا مضيتُ في قراءة مصادرنا في الفقه والتفسير والتاريخ، تبينت لي حقيقة أولية هي التي كانت نقطة الانتقال، وهي أنّ التاريخ الإسلامي ليس من صنع السماء، بل من صنع البشر”. هذه كانت بداية الرحلة الفكرية للمفكر هادي العلوي.
المثقَّف المنبوذ
من بغداد، أرض التقاء دجلة والفرات، سطعَ نجم المثقف الكوني هادي العلوي سنة 1932 في كردة، وهو أحد أشهر أحياء بغداد عاصمة العراق. كان قدر هادي أن يعيش وسط أسرة متعلمة، فجده كان فقيه كردة، ومن حيه بدأ بدراسة الشعر والتهم كتب الأدب والصوفية والتاريخ قبل أن يحصل على الإجازة في الاقتصاد.
غادر هادي العلوي العراق، مُكرها، سنة 1976 نحو الصين، لتبدأ تجربته في التعمق في كتب الماركسية وفكر ماو تسي تونغ والتجربة الصينية وتاريخها.
بدأ هادي بتحليل التاريخ وأفكار التراث مُستندا إلى ما درسه في مكتبة جده، ليصل إلى فهم الواقع من خلال المادية التاريخية والمادية الجدلية، مُخضعا بذلك كل ما تعلمه، وكلَّ ما يراه، للتحليل الماركسي وصراع الطبقات.
الحلاَّجُ الشيوعي
كان هادي العلوي نتاجاً لبيئتين متضادتين مختلفتين، غير أنهما أنتجتا مفكرا كونيا، انفتح على الغرب وكتب عن تجارب غربية وعن الإسلام السياسي. آمن أن الانفتاح على الغرب مهم لإنتاج أفكار وبلورة رؤى تمضي بالإنسانية إلى الأمام.
إيمان هادي بفكرة الانفتاح على الغرب ونقده لكتابات ضد الغرب، نجدها في كتابه “فصول من تاريخ الإسلام السياسي” حيث يقول: “إن المجابهة بين الاسلام والغرب عززت من التباعد النفسي بين الغربيين والمسلمين، لاسيما العرب. إن كلمة افرنج حيثما وردت في كتاب عربي قديم تلحقها في الغالب لعنة الله مع الإشعار بالعداء والكفر والتغليظ فيه”.
يضيف هادي: “ولا تجد مثل هذه اللغة في الكلام عن أهل الصين وأهل الهند، الذين يحظون بتقدير عام عند المسلمين، ويطلق عادة على الإمبراطور البيزنطي وملوك الإفرنج لقب الطاغية. وتقترن صورة الهندي والصيني في مخيلة العربي بالحكمة وحسن الصنعة، مع حكايات خاصة عن عدالة ملوك الصين، بينما ترتسم للإفرنجي صورة العلج الغليظ المحتقن بالعداوة”.
آخر الماركسيين
يقول هادي العلوي: “لست أظن أن كارل ماركس بأشواقه المشاعية المُعطَّرة برائحة التراب الشرقي كان سيبدو غريباً على “المسلمين” كما بدا في ثوبه السوفييتي المغربن . كان سيفهم أن مسار التاريخ يبدأ من يسوع الذي أقسم لوناتشارسكي أنه لو عاد اليوم لصار بلشفياً. وفي أيامنا هذه، حيث تعلن أطراف اليسار العربي إفلاسها وتتقدم السلفية لتملأ الفراغ بنموذجها السعودي والايراني، فإن عودة متزامنة لماركس الفيلسوف وتراثنا المشاعي – اللقاحي ستفتح صفحة مقروءة بلا لبس لكل من الأمي والقارئ”.
آمن هادي العلوي بالماركسية خيراً للتحليل ومنهجا للتفكيك، معتبرا كارل ماركس مفكراً عظيما كما هو الحال بالنسبة لـ “بليخانوف، لينين”، وكذا جيل البلاشفة من الروس؛ “روزا لوكسمبورغ، كلارا زنكتين، أناتولي لوناتشارسكي”.
اعتبر هادي الماركسية هي منظومة من الفكر الحي، المتحرك، والشمولي الديالكتيكي تتكامل مفاصلها دون تعارضات جوهرية. وهي تتسم في جملتها باثنتين من السمات الكبرى: دقة منهجها العلمي ونزعتها الإنسانية.
هادي العلوي هو نِتاج لتجاربَ فكرية وثقافية ومِحن اجتماعية خالصة، انطلق من القرآن والتراث والفكر الديني، ثم انفتح على مسارات الماركسية، ثم كتابات العرب عن ماركس والاستشراق، التهم كتب إدوارد سعيد ومهدي عامل وغيرهم.
تشبع هادي بالأفكار الثورية، كانَ حينها دارساً للتجربة الصينية وللسجالات حول الاشتراكية والشيوعية. آمن بفكرة المُثقف العضوي المنزاح للطبقات الاجتماعية الصُغرى. كما آمن أن الفكر مهمة ثورية للصراع الطبقي، وأن الجدل وقراءة الواقع يساهمان في جرح السؤال حول عوامل التخلف الحضاري والعربي.
المرأة في فكر هادي
لم يهادن هادي ولم يستكن في قضية المرأة، فقد اهتم بقضاياها واولاها اهتماما في كتابه “فصول عن المرأة ” بدأه بإهداء للمرأة أما أختا وزوجة وسيدة في مجتمع حر خارج عبودية القانون.
دافع هادي عن استقلالية المرأة، إذ يقول في كتابه: “لا تزال الذكورية تفرض بعض تأثيراتها على الغربيين رغم امتلاك المرأة كامل حريتها وكامل حقوقها. ومن مظاهرها تلقيب الزوجة بلقب الزوج وفيه إقرار رسمي بتبعية المرأة للرجل”.
يقول هادي العلوي في كتاب “في الدين والتراث: “بتأثير الدين ما تزال المرأة العربية مواطنة من الدرجة الثانية. ينعكس هذا الوضع في قوانين الزواج والطلاق وسائر مواد الأحوال الشخصية التي تحكم المحاكم الشرعية بمقتضاها”.
حسب هادي، تذهب قوانين الأحوال الشخصية النافذة في بلاد العرب إلى أبعد مدى مستطاع، وربما غير مستطاع، في تكثيف الجو الرجعي المعادي لحقوق المرأة، حتى ولو أدى الأمر إلى مخالفة النصوص الشرعية الأصلية نفسها.
هادي في مرآة مظفر
ميزة هادي العلوي قلقه! هكذا أراد الشاعر مظفر النواب أن يصفَ هادي العلوي متذكرا لقاءهما الأول بلندن. مضيفا أن “هادي لا يعرف العيش دون قلق، فهو جزء من تركيبته. هادي تلمح بعيونه المطر ولو أن الجو غير ممطر”.
يقول مظفر متحدثا عن رفيقه هادي: “كان حاضر هادي العلوي يجعله قلقًا، بلا استكانة، قد يبدو للآخرين خشنا، قاسيا، موجها، حادا، لكنه حنون. لم يُفهم بشكل جيد، وفُهم بشكل سطحي. كان عميقا جدا. يمتلك مزيجا ذهبيا بين الماركسية والتصوف”.
غريب في “الغرباء”
بدأ هادي غريبا ومات غريباً ودفن في مقبرة الغرباء. أي غُربة هاته التي جعلت منه مفكرا كونياً عابرا للأفكار، جامعاً بين التصوُّف والماركسية والجدلية؟ هي الغربة عن الوطن الذي هاجره في رحلة الألم من العراق إلى الصين، ليقضي آخر أيامه في سوريا حيث توفي بدمشق في 27 شتنبر سنة 1998.
نعى مظفر النواب رفيقه هادي متذكرا حينما زار الشاعر الألماني يوهان غوته في أيامه الأخيرة الكهف الذي قضى أيام صباه فيه، يلعب مع الرفاق الذين رحلوا عن عالمه، فأنشد قصيدة يقول فيها : في ذرى الأطوادِ صمتٌ شاملٌ وسكونٌ غشِيَ الكون الفسيح، كل شيءٍ مستريحٌ هادئٌ، وقريباً أنت أيضاً تستريح.
يصمت مظفر النواب، يتنهد قليلاً ثم يقول: هل استراح هادي العلوي؟ لا أعتقد.