المعرفة العلمية في عالم دول مينا: تحولات ضرورية نحو تحديث العقل وتحفيز الفكر العلمي
“… ونحن هنا في الوطن العربي، ما زلنا متخلفين عن ركب الفكر العلمي، تقنية وتفكيرا، وما زالت الدراسات الفلسفية عندنا منشغلة بالآراء الميتافيزيقية أكثر من اهتمامها بقضايا العلم والمعرفة والتكنولوجيا، الشيء الذي انعكست آثاره في جامعاتنا ومناخها الثقافي العام. هذا في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى تحديث (العقل العربي) و (تجديد الذهنية العربية)…”
هكذا افتتح محمد عابد الجابري كتابه “مدخل إلى فلسفة العلوم”. كلمات تعكس واقع المناخ العلمي لدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط. مناخ طغى عليه الركود العلمي المهول الذي يرجع بالأساس إلى عدم الحسم في أمور ميتافيزيقية وكل ما يتعلق بعقائد وقناعات، إذ لا زالت تمثل شبه مركز فكر تلة من المثقفين المفكرين، مما أنتج كما هائلا من الآراء في قضايا امتدت على أزمنة طويلة، حيث أنها لم تخلّف سوى حقبة أخرى من تضارب المواقف فيها، الشيء الذي أتاح تشعب فرق ومذاهب مختلفة، كل يجر الحبل لجهته. هذا الواقع أدى إلى انزياح كبير عن قضايا العلم والمعرفة ومواكبة ركب الفكر العلمي عامة، هذا الركب الذي أصبح السباق فيه شديد التنافس، وقاس على الشعوب فقيرة الإنتاج العلمي والمعرفي، حيث أن قيادة العالم اليوم لأولئك الذين يجعلون الإنتاج العلمي والتطوير الفكري ضمن الأولويات الأولى.
لا يتحقق هذا إلا بدفع الفرد والمجتمع معا نحو الإهتمام بقضايا العلم والمعرفة – هذه المسؤولية تلقى على عاتق المثقف العلمي الذي عليه توجيه قلمه نحو ورقة العلم والمعرفة- عن طريق التنشئة العلمية الصحيحة، وبناء الثقافة المعرفية القوية التي من شأنها جعل المجتمع ذا بنية ثقافية تمكن الفرد من استيعاب السباق أولا، ومدى قوته وأهميته في الآن نفسه. يضيف محمد عابد الجابري: “… وسيلتنا إلى ذلك، يجب أن تكون مزدوجة متكاملة: الدفع بمدارسنا وجامعاتنا إلى مسايره تطور الفكر العلمي وملاحقة خطاه والمساهمة في إغنائه وإثرائه من جهة، والعمل على نشر المعرفة العلمية على أوسع نطاق من جهه ثانية…”.
كل هذا في سبيل مجتمع بناء نحو الإنتاج المعرفي. بل سيكون لهذا الدور المباشر في توفير البيئة العلمية المناسبة (بما في ذلك الثقافة العلمية، التفاعلات الاجتماعية، والدعم المجتمعي للأنشطة العلمية…) لتفعيل قدرات العقل العلمي وتوجيهه نحو مجالات البحث والابتكار. علاوة على ذلك، تعتبر البيئة العلمية النقطة الأساسية لتفشي ظاهرة هجرة العقول العلمية المفكرة مثلا، أو البرود العلمي، أو حصر القضايا العلمية في دائرة ديقة وجعلها نخبوية، كما أن هذه البيئة تمثل عاملًا أساسيًا يجذب العقول ويحفزها على تحقيق الإنجازات العلمية، حيث يسعى الباحثون والمفكرون إلى البيئات التي تمنحهم الحرية الفكرية لاستكشاف حقول المعرفة من دون قيود ولا حواجز.
لا ريب في أن الدول العظمى التي تترأس مقدمة السباق هي تلك المتطورة علما وتكنولوجيا، ولا شك في أن الدول المتخلفة عن ذلك هي تلك التي ليست لها سياسة واضحة للبحث العلمي، وتقوم على الاستيراد المعرفي لا إنتاجه. هذا من جهة؛ أما من جهة أخرى، فنحن نجد من بين أسباب عرقلة التطور المعرفي في هاته الدول- دول مينا- الصراعَ العلمي الأيديولوجي، باعتبارهما نمطين مختلفين يشكلان طبيعة البشر وتوجه تفكيرهم وسلوكهم. بينما الأيديولوجية تعتمد على مجموعة من المعتقدات والقيم والمفاهيم التي يمكن أن تكون مشوبة بالتحيز والتصورات الشخصية، وتميل إلى توجيه التفكير واتخاذ القرارات استنادًا إلى إيمانات معينة دون الإلتزام بتقييم دقيق للحقائق، نجد أن المعرفة العلمية تمثل مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي تستند إلى البحث والتحليل الدقيق للحقائق والأدلة؛ وتتميز بأنها منهجية ومنطقية، وتهدف إلى فهم الظواهر الطبيعية والإجتماعية من خلال تجميع البيانات واختبار الفرضيات، بالإضافة إلى أنها تسعى للوصول إلى الحقيقة وفهم العالم من حولنا بأقصى درجة من الدقة والموضوعية الممكنة.
قد تكون الأيديولوجيات مفيدة في توجيه أهداف وقيم فردية أو جماعية، ولكنها قد تكون أيضًا مصدرًا للتشدد والصراعات عندما تتعارض مع المعرفة العلمية؛ وهذا ليس في صالح التطور العلمي والتكنولجي أو الفكر العلمي عامة. هنا، تبرز أهمية فصل المعرفة العلمية عن الأيديولوجية، ووجوب تحرير المعرفة كليا، وجعل الحكامة للعقل والتجربة وللمنهج العلمي الدقيق وحده دون غيره، هذا المنهج الذي يقوم على الحجة والبرهان.
إذا ما نحن أردنا الإرتفاع بالمستوى المعرفي والعلم، وبناء حضارة في مستوى حضارات العصر علما وعملا، يجب أن تكون ضرورة فصل المعرفة العلمية عن أي أيديولوجية والرقي بالمنهج العلمي، ضرورة مؤكدة؛ إضافة إلى مسايرة تطور الفكر العلمي الخالي من الشوائب الآيديولوجية لتحري الدقة والمصداقية العلمية.
مقال فكري جميل من الاخ محمد وفقك الله