إكرام عبدي، تكتب: زلزال الحوز – أعتذر منكم أبناء وطني…
أعتبُ عليك أيها “الزلزال” كونك كنتَ أقْسى على أهالينا من شظف العيش؛ وأقسى عليهم من الصّيف بحرّه وعطَشه ورمده وذبابه وأقسى عليهم من الشتاء بوحله وصقيعه وسعاله وقسوته وأرجله الحافية وأياديه المشقّقة والمخاط المتدلّي من الأنوف المحمرة.
أعتبُ عليك لكونك لم تكن عادلا حين عبرتَ؛ باغتْتنا دون سابق إنذار، أخطأتَ الهدف وصوّبت دمارك صوب قرى من أشباح وُجودها أشبه بغيابها، ذنبها أنها التحفت الطين والسماء، ورصّت من اسمنت عرقها مسجدا تستجير به عند الشدائد، وأقصى ما تحلم به جرعة ماء ولقمة عيش وطريقا معبدا إلى مستشفى أو ماء أو مدرسة أو حتى ظل.
أعتذر من كلّ الأيامى والثكالى والأيتام في جبال أطلسنا الكبير؛ إن كنت أكتب مقالتي هاته على أنقاض جثث أهاليهم وأهالينا، أعتذر لكوني أكتب الآن وأنا على أريكتي مستريحة، ربما منتشية بقهوتي لكني ضئيلة جدا أقاومُ وهَني بشجن رقراق معتّق ولُعابٍ مرّ لا يطاق، فالفاجعة تضيق بها حروف الكلام والقراطيس والألواح.
أعتذرُ من ذلك الركن الخفيِّ القصيّ المسوّر بالجبال الملتحِف السّماء؛ ببيوته المضْمومة على نفسها المتساندة سلفا المتهاوية المتضامنة حاليا، وذاك الربع المنسيّ المكْلوم من مغربنا الحبيب وتلك القرى التي بدت لنا كحلم لطول ما انعزلت عنا.
أعتذرُ من “مواطنين” موتى أحياء بقلة حيلة وصعوبة أحوال؛ لربما سمعوا عن التنمية ومبادراتها في نشرات الأخبار ، وربما ولجوا باب الحضارة فقط عبر هواتفهم الذكية وشاشاتهم التلفزية.
أعتبُ عليك أيها “الزلزال” كونك كنتَ أقْسى على أهالينا من شظف العيش؛ وأقسى عليهم من الصّيف بحرّه وعطَشه ورمده وذبابه وأقسى عليهم من الشتاء بوحله وصقيعه وسعاله وقسوته وأرجله الحافية وأياديه المشقّقة والمخاط المتدلّي من الأنوف المحمرة.
أعتبُ عليك لكونك لم تكن عادلا حين عبرتَ؛ باغتْتنا دون سابق إنذار، أخطأتَ الهدف وصوّبت دمارك صوب قرى من أشباح وُجودها أشبه بغيابها، ذنبها أنها التحفت الطين والسماء، ورصّت من اسمنت عرقها مسجدا تستجير به عند الشدائد، وأقصى ما تحلم به جرعة ماء ولقمة عيش وطريقا معبدا إلى مستشفى أو ماء أو مدرسة أو حتى ظل.
مررتَ بمروقٍ شِهابي مُوليا ظهرك بعنجهية؛ لتُودِعنا صلْصلة الوجَع والكثير من الشّقوق والشّروخ في الجدار والصدور، تاركا لنا أرواح مكلومة تفيض عن الكون محبة وكرما، بسموقها وبتأججها الداخلي متعالية عن تلك الفراغات الفاصلة والمسافات الممتدة وذاك اليباب الذي يحدق فينا فيوجز ويبلغ.
عبرتَ هاته القرى الجبلية عجُولاً؛ في لحظة مارقة يصعب استعادتها أو إدراكها، وعصفتَ في زمن لم نتأهّب فيه لهبوبك الآثم، فانفطرتْ أشطار من جسدنا، لم يتبق لنا سوى فاجعة نفيق عليها عند صحونا وآخر ما تعْلق بنا قبل إغماضة العين، وتراب مختلط بالدم، ومعول يزيل الكومة إثر الكومة و جثث متناثرة هنا وهناك وأرجل كسيحة وأطرافه ممزقة وطفولة تنشد أمومة وعائلة تلبسها و أيتام وأيامى وثكالى حاسرات ضارعات ونداءات الأغصان واستغاثة الشجر وبوح الجدران ولهجات الرياح…
مررتَ خاطفا في جنوب فؤادنا؛ وتركت لنا مآقٍ تنبض بالوداعة وتنطق بالسكينة، ووجوه نورانية الطّلع صامتة الحضور مورّدة كأنه لم يمسسها أذى، تضْوى بحبور إنساني نادر، في مواجهتنا باحتجاجها الصامت وابتسامتها الواهنة الآيلة رغم محاولات مداراتها بودّ هادئ.
حللتَ بصداك المفجع في هذا الخريف السبتمبري حيث انحناءة تأهّب للشتاء؛ وقبل أن يصل قريبا المطر الشحيح ولسع الرياح وانطواء الصقيع، وصلت قوافل برد وسلام وحبّ من بسطاء هذا البلد وفقرائه بمشاعر تضيق عنها ألفاظ الدنيا ولغاتها ولهجاتها، قوافل سمحة شرِحة بهيّة تشرح الصدور وتهلل القلوب محفوفة بظلال الندى الفجري.
حلّت تلك المواكب لتشدّ من أزرهم وتهدئ من روعهم وتؤمنهم نسبيا من غوائل النكبة، ولتصرخ عاليا في وجه ماسكي زمام الأمور، لم تعد القرى قصية عن قلوبنا نائية منعزلة صعبة الولوج كما تلوكون في كل اجتماعاتكم، كانت قريبة جدا من أفئدتنا رغم وعورة المسالك وجسامة النكبة، وأن هذا الوطن الرحب مازال يضج بالكثير من الحب والأواصر الإنسانية والوجدانية ما يجعله يسَع الجميع دون تمييز ويلمهم تحت سقفه الآمن رغم كل الأزمات والأوجاع والآلام والجراح.