عبد القادر الشاوي: برهان العسل، من زاوية مختلفة
مفاهيم الجرأة الجنسية واللغوية والذهنية التي تقوم عليها رواية (برهان العسل) مُوَجَّهَة، من الناحية الأدبية، ضد تراث استبدادي (في إطار الثقافة العربية الإسلامية) تشخصه ذهنية متخلفة (قضيبية) تستهدف المرأة في ذاتها (الدونية) قصد منع تحررها وسعيها المتواصل، في مختلف التجارب التي تعلي من نضالها في سبيل المساواة، لتحقيق ما في ذاتها من طموح إنساني لا يمكن قمعه، بحكم التوجه الديموقراطي، بأية سلطة ولو كانت من صميم الاعتقاد الديني وَفِقْهِ الفقيه.
في “برهان العسل” جرأة جنسية ولغوية وذهنية تنتمي إلى درجة من التحرر معروفة في الآداب القديمة، لأنها كانت تبدو طبيعية للأفراد وللجماعات؛ فأصبحت، بعد (تطور) ارتدادي، على مستوى الذهنيات والأفكار، مقهورة ممنوعة مصادرة لا يملك هؤلاء الأفراد أمام شهواتها إلا التستر، أو سلوك المعصية، أو الصم، أو ما ماثل ذلك مما حرّمه المتسلطون أو أجادوا في تقنينه حسب الأهواء والتصورات. إذ الممنوع، بسبب القيم الأخلاقية المحافظة والموانع الدينية المتزمتة، كثير لا حصر له في حياتنا اليومية، زاده الفقيه حدة وصلابة، بحسب الظروف والمناسبات، بفعل التأويل والتخريج المبطن بالطهرانية كذلك، ناهيك عن الجمود والافتئات والوصاية والمواقف الذاتية المريضة بمحاربة المنكر:
جرأة جنسية، لأنها تصور الجسد وتستظهر الرغبة ولا تجد حرجا في التعبير عنها بالأسماء المباشرة ذات القصد المحدد. ثم إنها تصور طبيعة الرغبة في مستويين متداخلين: الإحساس بها للتعبير عن القبول والوضع الجنسي الذي يحقق الإمتاع، والشعور الباطني بها للالتذاذ بما يكون لها في الجسد من دغدغة وسحر وجرأة لغوية، لأن النظام اللغوي العربي (تركيبا ونحوا وصرفا) يحقق في الكتاب (الرواية) ما لا يقدر كثير من الكتاب (نساء ورجالا) على البوح به بالتعبير المباشر والصريح والمُحدِّد للصفة وللاسم. ثم وهو، في التعيين اللفظي، يصوغ جملا مفهومة تحقق الإدراك الفوري للمعني، وعندما يكون ذلك في علاقة بالجنس فإنه يحقق الفائدة والامتاع، لأنه يصف ما فينا من رغبات دفينة، أو عُقَد مستباحة، أو خبايا مطمورة على الوجه الذي لا يفضح الذات أمام الذوات… وإلى هذا وذاك، فإننا، مع هذا الإبلاغ اللغوي الحسي تقريبا، في عالم يستغل جميع الفانتزمات التي نستحضرها، أو نفكر فيها، أو نستجدي ذواتنا لكي نحققها على أتم وجهٍ، متى ما كانت قدرتنا عليها ممكنة بصورة طبيعية أو غير طبيعية.
الجرأة اللغوية لا تبوح ولا تصف، بل تُحَايِثُ وتستظهر، بحيث لا يمكن الاطمئنان إلى اللذة إذا لم تنحشر الذات في الجَوْف، مثل انحشار الحيات في الجحور المهجورة، بحثا عن دفء ما لا يتصوره الإنسان، بل يغزوه غزوا في حال من الإمتاع يفتقد معه شعورا يَجِلُّ عن الوصف، وقدرة لا يمكن تسميتها بأي اسم. وهو ما قد يتسبب في الإتيان بحركات والقيام بتصرفات، مهما كانت محكومة بالزمن القصير الذي يغمرها، فإنها لا تستجيب لأمر من الأوامر مسبقا، ولا يمكن قياسها بأي مقياس معروف سلفا. كيف يمكن للوصف أن يعبر عن الحنايا، وهل يمكن قياس الآه؟
وأما الجرأة الذهنية، ففي علاقة بالرجل وبالمرأة نفسها. أقصد أيضا في علاقة بالقيم التي تتحكم في شعور الأفراد وردود أفعالهم في المجتمع تجاه تصورات أو وقائع أو سلوكات، أو نصوصا تخرق الممنوع الديني أو السلطوي. لذلك، فإن الجرأة الذهنية قد تعني هنا تلك المواجهة التي إذا واجهت الممنوع تَحَدَّت، من منظور عقلي أو عاطفي، مَوَانِعَه؛ وإذا طاردها المجتمع المتخلف، بناء على ما في التفكير من محافظة أو تشدد، اقتحمت سلطته في الشارع العام (علانية وبدون خوف أو بخوف نسبي، لا يهم) للتعبير عن الإدانة التي تستحقها تلك السلطة المستبدة… بصرف النظر عن طبيعة هذا الاستبداد سياسيا كان أم دينيا.
جاء في التعريف بمخطوطة كتاب “الزَّهْر الأنيق في البَوْس والتعنيق، والهَيْج والشهيق، ومخالفة الزوج ومطاوعة العشيق”، أنه (بالنظر إلى مضمونه، لا يشذ عن الأدبيات الشائعة في زمانه، في إطار الثقافة العربية الإسلامية وفي غيرها من ثقافات الأمم في العصر الوسيط، التي تتضمن ترسانة ضخمة من الآثار والأخبار والمواعظ والأمثال والقصص المثلية والحكايات الهزلية، وكلها تكرس دونية المرأة، وتحثُّ، بناء على ذلك، على ضرورة ازدرائها والتحرز من شرورها بالتضييق عليها في سلوكها وحركاتها وسكناتها. والسبب في ذلك أن الكتاب، وما أشبهه من كتب المتقدمين والمتأخرين، صدر عن ذهنية قضيبية معادية للمرأة، لا تدين المرأة المسلمة وحدها، بل تتعدى ذلك إلى إدانة المرأة اليهودية والمسيحية الشرقيتين، وجنس النساء بصورة عامة…).
ويستفاد من هذا، بناء على ما ذكرناه، أن مفاهيم الجرأة الجنسية واللغوية والذهنية التي تقوم عليها رواية (برهان العسل) مُوَجَّهَة، من الناحية الأدبية، ضد تراث استبدادي (في إطار الثقافة العربية الإسلامية) تشخصه ذهنية متخلفة (قضيبية) تستهدف المرأة في ذاتها (الدونية) قصد منع تحررها وسعيها المتواصل، في مختلف التجارب التي تعلي من نضالها في سبيل المساواة، لتحقيق ما في ذاتها من طموح إنساني لا يمكن قمعه، بحكم التوجه الديموقراطي، بأية سلطة ولو كانت من صميم الاعتقاد الديني وَفِقْهِ الفقيه.