مهرجان كناوة بالصويرة: مشاهد خارج “الكادر” ومهن موسمية تضفي على المهرجان طابعا إستثنائيا
ما إن تصل إلى ساحة الساعة حتى تستقبلك، بصدر رحب، مجموعات غنائية وأصوات الموسيقى والرقص هنا وهناك، وهواة الغناء في الشارع يطربون مسامعكَ بأغاني البلوز.
وأنت تتجول في أزقة الصويرة على هامش مهرجان كناوة، تلتقط عيناك صورا كثيرة؛ للجمال، للبساطة، للحب، للموسيقى، للتعايش. مهنُ موسمية يشد أصحابها الرحال إلى الصويرة بحثاً عن لقمة عيش أو نسج علاقات وغيرها. قد تتجه العدسات إلى كثير من الصور بالمدينة، غير أنها لا تظهر بالضرورة في “الكادر”. قد تلتقطها عدساتنا خلسة أو خلال مرورنا… عبرها نسرق بعضا من البسمة بين حلقات غناء الفن الغربي، والغيوان والمشاهب وغيرها.
شاي وعناق
نتواجد الآن عند بائع رغائف (المسمن المغربي) وزوجته في مدخل المدينة القديمة، مقهى صغير، شاي ونعناع هما الأبرز هنا داخل المحل. “وأنت تعد فطورك فكر بغيرك” أو ربما عانق غيرك وقم بدعوته لكأس شاي.
قد يبادلك أحدهم السلام أو عناقاُ حارا أو يُلوح لك خلال عبوره، وهذا ما حدث لشاب بمعية صديقته تقاسموا مع مرايانا جلسة الشاي والرغيف والعناق، في محاولة منهم للقول: هنا مدينة الحب والسرور. يحدث هذا عند مدخل المدينة.
نتبادل أطراف الحديث في المقهى الصغير، شادي ومريم قادمان من تطوان، دأبا على زيارة مدينة الصويرة منذ أزيد من سبع سنوات. لهما ذكريات كثيرة في مهرجان الصويرة. تبادلا أطراف الحديث مع أصدقاء كثر، التقطا صورا، غنوا جميعا وباتوا في العراء ليالي عديدة.
لشادي كما مريم أصوات عذبة. يحبان الفن والموسيقى والمسرح. يهويان كناوة ويرقصان على أنغام “بابا ميمون” وغيرها من الأهازيج. حضورهما هنا بالصويرة عُرفٌ لا محيد عنه، كسره هاجس فيروس كورونا ذات زمن حزين، وعاد اليوم، ليعودا معه ويعيشان لحظات الحب والوفاء لمدينة اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من المدن المغربية.
غناء ولقاء أحبة
ما إن تصل إلى ساحة الساعة حتى تستقبلك، بصدر رحب، مجموعات غنائية وأصوات الموسيقى والرقص هنا وهناك، وهواة الغناء في الشارع يطربون مسامعكَ بأغاني البلوز. هنا التقينا سعد، عضو فرقة موسيقية، قدم إلى الصويرة من مراكش بمعية أصدقائه، استقر بهم المقام هنا لنشر الفرح والغناء الجماعي. هاته الفرقة مداخيلها الوحيدة من الغناء، وهي دراهم يجود بها من أطربتهم أغانيهم، ومن صفقوا ورقصوا على أنغامها. يعتبرها سعد مهنة بسيطة، ليست الغاية منها جمع المال فقط، بل مشاركة الموسيقى والإنسانية والعزف بكل حب.
اعتاد سعد زيارة مدينة الصويرة منذ أن كان طفلاً، فعامل القرب بين مراكش والصويرة كان مُساعدا. تعلم عزف القيثارة وأدى بعض المعزوفات الغربية، ثم اجتمع مع رفاقه ليزوروا مجموعة من المدن المغربية بحثا عن السعادة، الحب، ودراهم معدودة يقسمونها معا يسدون بها حاجياتهم البسيطة.
يقول سعد: “قدمنا للصويرة للقاء الأصدقاء القاطنين هنا، والوافدين ممن حضروا المهرجان الذي يعد محجا لنا ولكل القادمين من مدن عديدة”. يضيف سعد أنه يصعب لقاء أصدقاء في أوقات أخرى ومناطق أخرى. هنا في الصويرة يمكن أن تلتقي أصدقاء باعدت بينكم السبل لسنوات عديدة. هنا في الصويرة تتجرد من كل شيء. تصبح إنسانا عارياً يبحث عن الموسيقى، الحب، العيش، السلام والتسامح.
عن الربح من الموسيقى وفن الشارع، أفاد سعد أنه لا يهم ما نجنيه من المال، فما نربحه يكفينا ليوم واحد. لنبدأ غدا آخر قد يوفر لنا هو الآخر دراهم معدودة نسد بها رمقنا. نعيش بها هنا نزور بها بعض الأماكن المجاورة، ثم نعود حاملين معنا البسمة والصور وبعض المقاطع التي نغنيها بكل حب.
يقول سعد: “كناوة تعني لي الكثير؛ هنا أجد نفسي، راحتي، أشياء كثيرة أبحث عنها. أختلي بنفسي أحيانا ومع وأصدقائي أحيانا كثيرة. ننشر الحب، نغني، نرقص مع آخرين غرباء وكأننا نعرفهم منذ زمن. نربح بعض الدراهم. نشتري بها حاجاتنا لنعود إلى مدينتنا ضاربين مع الصويرة موعدا آخر”.
“مهرجان الصويرة أصبح بالنسبة لي أكثر من مجرد مهرجان. هو حج ألتقي فيه مع الكثير من الأصدقاء. أشعر بفرح شديد حين تنتهي مجموعتي من أداء معزوفة ثم يصفق لنا الجميع ويمدوننا ببعض الدراهم ويغمروننا بالحب. بعضهم يلتقط معنا الصور، وبعضهم يعبر ويلوح لنا بيديه وبقلبه ويبتسم من بعيد فنرد بابتسامة مثلها” يقول سعد.
يضيف المتحدث: قد تبدو مهنة موسمية أو بسيطة. وقد تبدو للآخرين غير مدِرة للدخل. بالنظر إلى تكاليف السفر والكراء والمكوث بالصويرة طيلة أيام المهرجان. إلا أن الحب وعشق السفر وعشق الأغاني وعشق الموسيقى يدفعنا لتقبل كل هذا. قد لا نربح شيئا أحيانا سوى الابتسامة، لأننا هنا بالصويرة، نسعى لنشر الحب والتسامح وربح قلوب الناس. الدافع للتواجد هنا ليس ربحا ماديا بالدرجة الأولى، بل هو دافع اكتشاف معارف جديدة.
أقضي كل مهرجان وكأنه الأخير في حياتي. كما أغني كل معزوفة وكأنها الأخيرة لي. هكذا بكل حب أشتغل بهذه المهنة البسيطة، التي تدر عليَّ الكثير والكثير من الحب والقليل من المال.
حلويات با علي: تراث وتواصل
وسط الأجواء الكناوية، يوجد الحاج علي، بائع الحلوى والمكسرات، يبيع منتوجاته بالكثير من الحب، وسط تجمع الناس وابتساماتهم المشرقة، يقدم صاحب العربة الصغيرة التقليدية، مجموعة من الحلويات اللذيذة. يزداد جمالها مع طابعه الودود والمتواضع الذي يجذب الزوار.
للحاج علي ابتسامة استثنائية وكلام عذب ممزوج بالزجل الذي لا يخلو من القفشات الدكالية، كيف لا وهو القادم من دكالة التي يقول عنها: “جئت من أرض النشاط إلى الصويرة أرض كناوة والحال والكنبري”.
حلويات الحاج علي ليست للبيع فقط، بل هي، وفق تعبيره، جزء لا يتجزأ من التراث المغربي، وتعكس تقاليده. جزء من التواصل الثقافي، وعرض لجوانب الهوية المغربية. حيث يعرض الحلوى الفاسية المعروفة بـ “حلوة مولاي إدريس” والكعك المسفيوي وغيره من الحلويات. بالنسبة له، فإن عربته وسيلة لنقل تراث المغرب وثقافته إلى الزوار، فإذا تذوق الزائر الحلوى الفاسية، فكأنه زار فاس. هي تجربة حسية وثقافية فريدة عند الحاج علي.
تنقل الحاج من سيدي بنور، إقليم الجديدة، مصحوبا بعربته وحلوياته. يبيع بثمن بسيط، زاهد في الدنيا حسب قوله. حضوره وسط أهازيج كناوة بالنسبة له أكبر من أي شيء، وارتباطه بضريح سيدي بلال، الذي كان يزوره، يجعله مرتبطا بكل الطقوس الكناوية.
مهرجان كناوة في الصويرة هو تجربة ثقافية تلامس القلوب وتشعر الأرواح بالسعادة. في عالم تتسابق فيه التكنولوجيا والحياة الحديثة، يعد بائع الحلوى العتيق بوصلة تواصل ملهمة تعيدنا إلى جذورنا وتذكرنا بأهمية الفن والتراث في الحفاظ على هويتنا.
كان الحاج علي سعيدا للغاية، دقائق من الوقوف عند عربته كانت كفيلة بأخذ صورة عنه. يختم بالقول: “أنا سعيد جدًا بأن أكون جزءًا من مهرجان كناوة في الصويرة، وأن أشارك بحلوياتي. فقد تعلقت بالحلوى منذ صغري، وكنت شغوفا بتعلم صنع الحلويات عن والدي رحمه الله”.
غير بعيد عن حلقات غناء سعد وعربة الحاج علي، يتجول عبد الإله، بائع الملصقات Les Stickers، يتجول بين ساحة مولاي الحسن والمدينة القديمة، يحمل محفظته وعدته، باحثا عن عُشاق الملصقات التي توضع إما على الحاسوب أو الهاتف أو تُلصق في كتب لتبقى ذكرى عبور.
الستيكرز: ثقافة وحب
توقفت مرايانا عند عبد الإله الذي يعرض ملصقات كثيرة لعشاق كناوة، منها صور لمعلمي كناوة أو صور للكنبري وكناوة ديفيزيون، وبعض أشعار محمود درويش وعبارات المحبة والمحتفية بالحياة وغيرها.
المرة الأولى التي يخوض فيها عبد الإله تجربة بيع الملصقات في المهرجان، أتى للمهرجان من مدينة مراكش زائراً، واليوم يعود له في تجربة فريدة. بيع ملصقات أصبحت تجد صداها في الأوساط الشبابية.
الستيكرز أو الملصقات هي ثقافة، هكذا عبر عنها عبد الإله، يمكن أن تجسدها فيما تحب، إما موسيقى أو أشخاص وغيرها، تضعها أمام عينيك وتُلصقها في حاسوبك وتتقاسمها مع أصدقائك وتخلد بها ذكرياتٍ عديدة.
تجربة بيع الملصقات عند عبد الإله فريدة، حيث يقول إنها تجعله يقترب من زبائنه أكثر، ويستطيع اكتشاف ميولات الزبون انطلاقا من الملصقات التي يطلبها. هنا في الصويرة تمتزج كل الثقافات، وهذا ما يدفعني، يقول عبد الإله، لإعداد عدد كبير منها، وبمواضيع متعددة، فأي زبون وقف عندي يجب أن يجد ضالته هنا.
حسب عبد الإله، فقد أصبح هناك إقبال اليوم على الستيكرز، يبحث عنها الشباب كثيرا، و”هنا في المهرجان أتجول وأعرض ملصقات كناوة وملصقات لفنانين وغيرهم. أقوم بهذا العمل بكل حب ألتقط صورا مع الزبائن، أكسب ودهم، وأحيانا يغمرونني بهدايا أجعلها تذكارا في مذكرتي الخاصة”.
يقول عبد الإله إن بيع الستيكرز ثقافة أعيشها بحب، صحيح أنها ليست مهنة، ومداخيلها قليلة جدا، إلا أني حينما أبيعها لزبون، فكأنها قطعة من الروح، ولو أن قيمتها درهمين أو ثلاث… فقيمتها تكمنُ في رمزيتها وليست مرتبطة بالمادة.
صور كثيرة هنا عبرت من خلالها مرايانا. صور توحي أن الصويرة مدينة اجتمع فيها ما تفرق في غيرها: لقاءات الأحبة وأهازيج المساء ونقاشات الترحال والسفر و…كناوة والحال عند المعلمين الكناويين وغيرها… وكلها قصص تستحق أن تُروى.