محمد أمنصور: حادثة الشخص المذكور يوم 27 مارس 2023 – سطوب: البوعزيزي ليس مغربيا…!
كيف توهمت يا صديقي للحظة أن من ترغب في إرسال رسالتك إليهم يستحقون التضحية بحياتك من أجل المعنى الذي تريد أن يصل؟
أيهم قدرت أنه مخاطبك: الوزير مهيدو؟ الدولة المغربية؟ الزملاء الفنانين الذين تجاهلوا نداءاتك في حياتك؟ الشعب المغربي؟ متى كان شعبك بكل ألوان طيفه يعترف بشيء اسمه الإبداع الفني؟ هل يعترف الفنانون أنفسهم ببعضهم البعض، فبالأحرى (…).
1 ـ ماذا حدث في اليوم العالمي للمسرح في عاصمة المملكة المغربية؟ شخص يضرم النار في جسده أمام مبنى وزارة الثقافة وسط ذهول المارة. ينقل إلى المستشفى في حالة حرجة. بعد خمسة أيام من تاريخ الإحراق، يموت متأثرا بحروقه. من هو هذا الشخص الذي لا اسم له في بلاغ وزارة الثقافة؟
بعد صمت مريب، تصدر وزارة المهدي بلاغا غريبا يتبرأ من “الشخص” “المواطن” “الموظف” المحترق دون نطق اسمه. الهاجس الوحيد الذي شغل محرر البلاغ هو التنصل من أي مسؤولية قانونية تجاه “موظف متعاقد في ‘مسرح محمد الخامس’ بالرباط، أُحيل على التقاعد في أكتوبر 2021، ويتمتّع بجميع حقوقه المكفولة له بحُكم القانون”. انتهى الكلام! (….).
2 ـ من هو هذا “الشخص المذكور” الذي لا اسم له في بلاغ وزارة مهيدو؟ متقاعد منتحر؟ فنان مسرحي فاشل؟ شهيد؟ أب أسرة؟ مبتز للدولة؟ بطل تراجيدي؟ مريض نفسيا؟ من يكون؟
الذي تابع ردود الفعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي تجاه واقعة 27 مارس، تتبادر إلى ذهنه مجموعة من الأسئلة: هل “الشخص المذكور”، كما كرر البعض، مجرد فنان فاشل وموظف فاشل عجز عن إثبات ذاته فنيا واجتماعيا فلجأ إلى ابتزاز الوزارة؟ هل هو بطل وشهيد قضية أم مجرد منتحر في رمضان سيلقى عقابه عند الله؟ (…).
3 ـ عندما نعود إلى الوسط المسرحي والفني بالمغرب، سيؤكد لنا أن الشخص المحترق اسمه أحمد جواد. فنان مسرحي قام بتنشيط نادي الأسرة لسنوات وحامل لبطاقة الفنان. خاض نضالات كثيرة طوال مسيرته المهنية، آخرها احتجاجه أمام مقر وزارة الثقافة على حرمانه من دعم عمله المسرحي ورفض الوزير استقباله. وعندما نعود إلى غوغاء الفيسبوك، سيقول لنا أحدهم: “الانتحار من حلول الجبناء.. من أجل المال فقط أنهى حياته”. ثلاث صور متعارضة. الأولى لشبح مجهول يبتز الدولة باسم المسرح. الثانية، لكافر انتحر في رمضان. الثالثة، وهي ضبابية، لشهيد من أجل قضية “الكرامة”. أي هذه الصور نصدق؟ (…).
4 ـ مستعدا لدفع ثمن خطيئة انتمائه إلى أسرة المسرح، قرر الشخص الذي يحمل اسم أحمد جواد يوم 23 مارس 2023 أن يستعمل جسده كأداة لقول كلمته الأخيرة. هذه المرة، وحده قام بكتابة النص المسرحي وإخراجه وتمثيله. الركح: مدخل بناية وزارة الثقافة. الزمن: اليوم العالمي للمسرح. الدور: مسيح جديد يصلب نفسه حرقا. ممثل واحد وبطل واحد يقف بمفرده فوق خشبة الحياة. يضرم النار في جسده موقنا أنه العرض الأخير والوحيد الذي لن يحتاج فيه إلى دعم أي جهة أو أحد. إلى هذا الحد، تبدو الأشياء مفهومة في ذهن أحمد جواد على الأقل. لكن غير المفهوم هو: كيف صدق هذا الفنان أن الوزير أو قبيلة الفنانين أو الشعب المغربي قاطبة سينظرون إلى احتجاجه هذا كسلوك حضاري، رمزي، بطولي ويخلعون عليه صفة البطل التراجيدي الذي يذهب رأسا نحو حتفه دون أن يرف له جفن أو يهاب الموت؟ كيف تبلغ به السذاجة أن يتوهم للحظة واحدة أن البوعزيزي يمكن أن يكون مغربيا؟
أعرف يا جواد أنك لم تقتنع بحتمية إضرام النار في جسدك إلا وإحساسك بألم اليأس كان أعظم وأقسى من ألم تلك النار نفسها. لكن، كيف توهمت يا صديقي للحظة أن من ترغب في إرسال رسالتك إليهم يستحقون التضحية بحياتك من أجل المعنى الذي تريد أن يصل؟ أيهم قدرت أنه مخاطبك: الوزير مهيدو؟ الدولة المغربية؟ الزملاء الفنانين الذين تجاهلوا نداءاتك في حياتك؟ الشعب المغربي؟ متى كان شعبك بكل ألوان طيفه يعترف بشيء اسمه الإبداع الفني؟ هل يعترف الفنانون أنفسهم ببعضهم البعض، فبالأحرى (…).
5 ـ أعرفه ويعرفني. سبق لي أن شاركت في بعض الأنشطة التي أشرف على تنظيمها في نادي الأسرة بالرباط. لم يكن ليقدم على إضرام النار في جسده لو لم يستنفذ جميع السيناريوهات التي سطرها لمعادلة وجوده. كان سقف حلمه أن يكون فنانا مكرسا وموظفا محترما وسط “سبوعا الرباط”! اصطدم بحاجزين صلبين: موهبة فنية متواضعة وانعدام شواهد جامعية تدعم مطلبه في الترقية الإدارية. وعندما بلغ إلى علمه افتتاح مسرح محمد عفيفي بالجديدة ـ الذي ناضل ضد هدمه واعتقل ـ دون أن توجه إليه الدعوة، أدرك بمنطق “المحكور” أن أحمد جواد الفنان لا وجود له إلا في ذهنه. هي ساعة الجد، إذن، دقت وحان موعد الفعل. لا شيء صار ممكنا ترميمه في حياة مليئة بالثقوب. كتب تدوينته الأخيرة وصعد صعوده الأخير إلى الخشبة فواجه مصيره وحده. أتخيله وهو يشعل النار في جسده يبتسم ابتسامته الأخيرة وهو يصرخ من شدة الألم:
ـ وداعا أحمد جواد
كنت ولم تكن
أما أنتم أيها المسرحيون..!
أتحداكم بعد اليوم أن تهتفوا بعيدكم العالمي للمسرح دون أن أكون عالقا في حناجركم (…).
نقطة، عودة إلى السطر!