رسالة الصحابة… فشل العلمانية كما رآها ابن المقفع (الجزء الثالث والأخير)
الملفت في رؤية ابن المقفع للفقه؛ أنه جعل مصادر التشريع: الكتاب والسنة فقط، ولم يلمح قط إلى “الإجماع”، أو اعتبار “القياس” كأصل يعتمد عليه في عملية التشريع.
تلك هي الثغرة الي عالجها الشافعي فيما بعد، بتوسعه بفمهوم السنة حينما تمسك ب”النصوص”، حتى وإن كانت ظنية الدلالة، كأحاديث الأحاد؛ بل أنه اعتبر حجية القياس ــ وهي عملية عقلية ــ أضعف من حجية حديث الأحاد. بل ومنذ زمن الشافعي، لن يعود الحديث مجرد خبر مأثورعن الرسول وحجيته لا تتعدى حجية الخبر المأثورعن هذا أوذاك من الصحابة؛ أو حجية السنة المعمول بها عند أهل المدينة، كمثال موطأ مالك، بل سيغدو شريكا للقرآن في مصدره الإلهي، وستتعادل حجية الأحاديث مع حجية الآيات القرآنية…
كان الجزء الثاني من هذا الملف محاولة مبسطة لفهم المفهوم القديم للسنة، زمن عبد الله بن المقفع، وقبل تأسيس الشافعي لأصول الفقه. فإذا كان الشافعي عمل على إدماج السنة كمصدر من مصادر التشريع ضد أهل {الرأي}، كان ابن المقفع في الواقع، يعمل على كتابة بيان سياسي دستوري، ضدا على أهل الحديث والرأي معا. فبينما كان أهل الحديث يدافعون عن حاكمية النصوص، وعن شموليتها لكل مجالات النشاط البشري؛ كان أهل الرأي يدافعون عن العقل في القياس لمواجهة الوقائع المستجدة. فالقضاة والفقهاء نوعان: نوع ملتزم بالسنة والأثر، ونوع يزعم أنه أهل الرأي…
يحيل ابن المقفع الخلاف الفقهي أو القانوني، إلى قسمين: ذلك الذي ينتج من مأثورات غامضة، (شيء مأثور عن السلف غير مجمع عليه، يدبره قوم آخرون على وجه آخر) وذاك ما ينتج عن اتخاذ القياسات كاستنتاجات متطرفة، أو تلك التي تأت من طول ملازمة القياس. حتى القياس كأصل من أصول الفقه رده ابن المقفع؛ لغلط في أصل المقايسة، أو لإفراط الفقهاء في القياس الشكلي؛ وابتداء أمر على غير مثاله أو لطول ملازمة القياس. والقياس ككل عملية عقلية هو عمل ذاتي؛ لذلك كان طبيعيا أن يرفضه ابن المقفع، إلا إذا أدّى إلى العدالة.
غيرأن الملفت هنا في رؤية ابن المقفع الابستمولوجية للفقه؛ هو أنه جعل مصادر التشريع: كتاب وسنة فقط. أو ما لا يقبل التأويل. ولم يلمح قط إلى “الإجماع”، أو اعتبار “القياس” كأصل يعتمد عليه في عملية التشريع. وتلك هي الثغرة الي عالجها الشافعي فيما بعد، بتوسعه بفمهوم السنة حينما تمسك ب”النصوص”، حتى وإن كانت ظنية الدلالة، كأحاديث الأحاد؛ بل أنه اعتبر حجية القياس ــ وهي عملية عقلية ــ أضعف من حجية حديث الأحاد. بل ومنذ زمن الشافعي، لن يعود الحديث مجرد خبر مأثورعن الرسول وحجيته لا تتعدى حجية الخبر المأثورعن هذا أوذاك من الصحابة؛ أو حجية السنة المعمول بها عند أهل المدينة، كمثال موطأ مالك، بل سيغدو شريكا للقرآن في مصدره الإلهي، وستتعادل حجية الأحاديث مع حجية الآيات القرآنية… وكأن الشافعي فطن لتلك الثغرة، التي قد أثارها ابن المقفع في نظرته للفقه.
كان الصراع بين أهل الأثر والرأي، يندرج أساسا في تحديد ما من “المرويات” يُضمّن تحت مفهوم “النصوص الدينية”؟؟. لذلك كان أهل الحديث يميلون، بطبيعة الحال، إلى النصوص حتى وإن كانت ظنية على حساب القياس؛ وكان أهل الرأي يفضلون القياس على ظنية النصوص. وابن المقفع كان قد تجاوز تلك الجدلية وعمل على توضيح هشاشة المواد الدينية نفسها. فاختلاف الأحكام، راجع لاختلاف السنن وتناقضها، وهذا ما عالجه الشافعي أيضا برد تلك الاختلافات، إما بردها إلى عدم سماع السبب الموجب للأمر أو للنهي؛ وإما أن السنة لم تبلغ الصحابي فعمل على خلافها؛ أو اختلاف الصحابة في التأويل؛ أي تأويل معنى الحديث. وهنا يعلق {نصر حامد أبوزيد}، من أن ذلك لا يخلو من مغزى ودلالة فحواها: النظر الى ذلك الجيل الأول بوصفه جيلا خاليا من كل شروط الضعف الانساني؛ جيلا من الأبرار الأخيار.
كانت هذه هي الفوضى، كما رآها ابن المقفع وحللها؛ والحل لديه، كان هو تحديد وتعيين تلك الأمور المختلف عليها، وإرسالها إلى الخليفة للبت فيها، بعد سماع كل قوم وحججهم، ثم كتابة قانون موحد وجامع، لتعميمه على كل عواهل الامبراطورية.
هنا قد يتبادر سؤال: أليس ما طالب به عبد الله بن المقفع، من دمج السلطة الدينية والسياسية في شخص الخليفة، يعتبر عملية “توأمة للسياسة والدين”؟.
بالفعل هذا ما قد لمح له “س. شاكد”، بأننا لو تتبعنا مسار الحضارة الساسانية، والتي يتغنى بها ابن المقفع وجدنا هذه الصيغ سائدة. غير أنه، وحسب “دومنيك أورفوا”، هذه الصيغة قد تصلح للإسلام الشيعي، وهو لم يلحظ قط بأن هناك نظرية شيعية، قد تبنت نظرية ابن المقفع هذه، ربما لسوء سمعته الدينية. غير أنه في موضع آخر يقول، حينما انتقل ابن المقفع من معالجته للفوضى الاجتماعية التى خلفها الفقهاء، إلى التشكيك في المواد الدينية نفسها؛ قد أقدم على خطوة حاسمة؛ فمن جهة أولى، نأى بنفسه بوضوح عن النهج الشيعي. فقد مارس دعاة الشيعة، بشكل منتظم، نهجا شكليا في ظاهره، من خلال فضح التناقضات التي ظهرت خلال التاريخ بين شتى التيارات والفقهاء، وذلك لكي يدفعوا بالمؤمن الحائر الى الركون لسلطة الإمام المعصوم …
نعم، لقد رأى “ابن المطهر الحلي” في “منهاج الكرامة في اثبات الإمامة” أن تعيين الأئمة “لطف واجب”، يلتزم به الله كما التزم بإرسال الأنبياء، وبعد أن اختتم الله النبوة بمحمد، تعيّن عليه أن يولي رجالا أتقياء معصومين؛ لهداية الناس إلى الخير وحمايتهم من الغلط والسهو والخطأ؟. فللإمامة وظيفة قريبة الشبه بوظيفة النبوة.
غيرأن الحال بالحل السياسي الذي يقترحه ابن المقفع، كان من شأنه أن يؤدي الى العكس، وإزالة هده التباينات والالتباسات، فيحرم دعاة الشيعة من حجتهم، لذلك يرى ابن المقفع أن العاهل الحكيم، مهما كانت سلطته مطلقة، سيكون أقل استبدادا من الفقيه المقيد بالمأثورات المتحيزة.
هل نجحت دعوة ابن المقفع؟
يقول “أحمد أمين” في كتابه “ضحى الإسلام”، بأن دعوته لم تذهب سُدى. فالخليفة المنصور طلب من “مالك بن أنس”، أن يكتب كتابا بفتاويه، فتنسخ وتبعث إلى الأمصار، وأن يأمر المسلمين بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه الى غيره، وأنه حينما أتى هارون الرشيد، عاودته الفكرة بأن يعلق “موطأ ابن مالك” بالكعبة، ويحمل الناس على ما فيه. غير أن “أحمد أمين” يرى من ناحية أخرى، أنه لم يكن في تلك المحاولات تحقيق لفكرة ابن المقفع، فقد كان أكثر حرية مما قصد إليه المنصور والرشيد. قد تكون محاولتهما تبلورا لفكرة عمر بن عبد العزيز في جمع الحديث وتدوينه وجعله قانونا، غير أن المستشرق “جوزيف إي. لوري” يرى أنه من المحتمل أن رسالة عبد الله بن المقفع لم تصل للخليفة أصلا.
في نفس السياق، يرى “جوزيف فان إس” مؤلف علم الكلام والمجتمع الإسلامي، بأنه لا يعلم إن كانت “رسالة الصحابة” قد بلغت الخليفة أم لا؟. لكن، إن كان الأمر كذلك… فأين تكمن أصالة ابن المقفع في هذه الرسالة؟.
أصالة ابن المقفع في هذه الرسالة، تكمن في أنه حاول قصر أصول الفقه وأصول التشريع في: كتاب وسنة، بعد أن جعل الدين شكليا فقط وأطره بالممارسات، أو محاولة جعله عملية وجدانية فقط، لأنه كان يصدرعن قلم فارسي، فابن المقفع استعاد الثنائية الزرادشتية من قوى النفس، وبث على هذا النحو إيقاعا جديدا في المقولات العربية، فرؤية ابن المقفع الابستيمولوجية للفقه، كانت تفترض أن الشريعة بها مساحات شاسعة تخضع للعقل البشري، وعمل على التخلص من النصوص الغامضة التي تؤدي إلى فوضى في الأحكام، بالاعتماد على مفسر واحد متمثلا في شخص الخليفة.
لأسف لم يكتب لرؤية ابن المقفع النجاح، فدعوته لقصر أصول الفقه في كتاب وسنة، ومنح السلطة السياسية حق التفسير والتطبيق لم تنجح. فالفقه الإسلامي حسب “جابرييلي”، حين تطوره، سلك طريقا مغايرا لرؤية ابن المقفع، حينما أراد ربط الشريعة بالسلطة السياسية، وأنه سلك طريق الإجماع الذي يبقى نظريا، في منجى من كل تدخل من جانب السلطان..