من بريطانيا، وائل العجي يكتب: الربيع العربي ومتلازمة استكهولم، أو ولع الضحية بالجلاد
أدت ثورات الربيع العربي إلى انقسامات حادة في الأوساط السياسية والثقافية، إضافة إلى الأوساط الشعبية المختلفة. ساهم في هذا الانقسام الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي وما رافق ذلك من جدل …
أدت ثورات الربيع العربي إلى انقسامات حادة في الأوساط السياسية والثقافية، إضافة إلى الأوساط الشعبية المختلفة. ساهم في هذا الانقسام الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي وما رافق ذلك من جدل وتراشق بين المعسكر المؤيد للربيع العربي وذاك المعادي له.
ترافقت ثورات الربيع العربي بظواهر اجتماعية و سياسية عدة كان من أبرزها استعمال نظريات المؤامرة والمؤامرة المضادة لتفسير الأحداث أو تبريرها؛ إضافة إلى النكوص المخزي لبعض النخب السياسية والثقافية وخيانتها للمبادئ والسرديات التي طالما تغنت بها.
تجلت هذه الخيانة بالموقف العدائي لثورات الربيع العربي والاصطفاف إلى جانب الأنظمة الاستبدادية، مستعملة حججا مختلفة تندرج في إطار سرديات المقاومة و الممانعة.
لاحقا، ارتبطت إحدى الرهائن بعلاقة عاطفية مع أحد الخاطفين، وقامت أخرى بجمع تبرعات مادية ليست بالقليلة لتغطية نفقات الدفاع عن الخاطفين.
لكن الظاهرة التي كانت أكثر غرابة وقباحة، هي وقوف عدد من الشخصيات والقوى مدافعة عن الأنظمة الاستبدادية التي كانت هي نفسها ضحيتها في وقت من الأوقات؛ مثل بعض القوى اللبنانية والفلسطينية وبعض الشخصيات اليسارية والإسلامية.
في محاولة لإيجاد تفسير لهذه الظاهرة، شاع استخدام مصطلح متلازمة استوكهولم، أو مايعرف بتعاطف الضحية مع جلادها. لقد ساهم في شيوع استخدام هذا المصطلح، الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى توظيف هذا المصطلح بشكل خاطئ أحيانا.
جاء هذا المصطلح من حادثة سطو مسلح على بنك في استوكهولم في عام 1973، حين احتجز رجلان مسلحان أربعة رهائن بينهم ثلاث نساء لمدة خمسة أيام تقريباً، قام خلالها المسلحان بربط شحنات من الديناميت بأجساد الرهائن. بعد إطلاق سراحهم، أظهر الرهائن تعاطفا كبيرا مع الخاطفين إلى درجة أنهم صرحوا أحيانا للإعلام بأن الخاطفين كانوا يحمونهم من هجوم الشرطة على البنك.
لاحقا، ارتبطت إحدى الرهائن بعلاقة عاطفية مع أحد الخاطفين، وقامت أخرى بجمع تبرعات مادية ليست بالقليلة لتغطية نفقات الدفاع عن الخاطفين.
أظهرت دراسات كثيرة أن هذه الظاهرة لا تقتصر فقط على حالات الاختطاف، بل قد تشمل أيضا بعض حالات العنف الأسري، بعض الطرق الدينية، وأسرى الحرب ومعسكرات الاعتقال.
ربما لن تتضح الآثار الكاملة لهذا التغيير إلا بعد عقود؛ وهي غالبا لن تقتصر على التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي، بل ربما تمتد لتشمل الجغرافيا السياسية أيضا
من وجهة نظر تحليلية، فإن هذا السلوك يدل على نشوء رابطة تعاطفية من طرف الضحية تجاه الجلاد يكون هدفها الأساسي هو النجاة. وقد أصبحت هذه الحقيقة معروفة لدى أجهزة الأمن وعدد من المتخصصين بمفاوضات إطلاق الرهائن.
تتميز متلازمة استوكهولم بعدة خصائص سلوكية إضافة إلى تعاطف الضحية مع الجاني، من هذه الخصائص: مشاعر سلبية أو عدائية تجاه المنقذين ورفض الانخراط في أي جهود للخروج من هذه الحالة المرضية.
وقد استطاع الباحثون تحديد أربع شروط موضوعية لنشوء متلازمة استوكهولم:
- توفر القناعة بوجود تهديد حقيقي أو وهمي و أن الجاني قد يقدم على تنفيذ تهديده.
- توافر مبادرات لطيفة ولو بالحد الأدنى من طرف الجاني تجاه الضحية.
- عدم قدرة الضحية على الاستماع أو تقبل أي وجهة نظر عدا وجهة نظر الجاني و تبريراته.
- عجز الضحية عن الخروج من هذه الحلقة المفرغة.
يستدل من التحليل السابق أنه، رغم الأخطاء التي شابت الاستعمال الشائع لمصطلح متلازمة استوكهولم في سياق ثورات الربيع العربي، فإن الاستعمال الأقرب له هو في الحالة السورية؛ حيث يقوم ديكتاتور فاسد بتجويع وتعذيب وقتل شعبه بكل وحشية منذ ما يقرب من سبع سنوات. ورغم ذلك، فقد أذهلتنا بعض الشخصيات التي كنا نعتقد أنها نخبوية تقدمية، وبعضها كان ضحية لنظام البعث الأسدي وقضى في سجونه سنين طويلة، بمواقفها اللاأخلاقية التي تغنت بصمود السفاح؛ بل وقد ذهب بعض هذه الشخصيات إلى مديح سلوك أفراد أجهزة الأمن في تعاملها معهم أثناء فترات الاعتقال؛ ليخلص إلى أن البلاد تمر بأزمة وجودية وأن نظام الاستبداد هو الأقدر على تخليصها منها.
رغم المخاض العسير الذي تمر به معظم بلدان الربيع العربي، فإن علامات التغيير واضحة جدا للعيان
في حالة مماثلة، شهدنا حملات كثيفة على وسائل التواصل الاجتماعي تتغنى إلى حد العبادة بتواضع الديكتاتور وأدبه الجم، لأنه ألقى التحية على بعض المواطنين أو تناول الطعام مع بعضهم الآخر، وهي تصرفات أقل من عادية في العالم الحر.
الغرابة الأكبر هي أن معظم من يقوم بهذه الحملات هم أصلاً ضحايا لفساد الديكتاتور، حيث يكدح معظمهم من أجل لقمة العيش ويساقون إلى الجيش للقتال من أجل إبقائه في السلطة، بينما يتنعم هو وعائلته بالأمان ورغد العيش.
لقد أسقطت ثورات الربيع العربي كثيرا من المسلمات التي سادت المجتمعات العربية وهيمنت عليها لعقود، والتي عملت على ترسيخها بعض التيارات السياسية اليسارية والقومية والإسلامية؛ وفتحت الباب واسعا أمام موجة من التغيير الحتمي في الثقافة وأنماط التفكير، وحتى في تناول القضايا التي كان يعتقد إلى وقت قريب أنها من المقدسات، بعد أن ظهر زيف و خداع الدعاية التي استعملتها التنظيمات الإيديولوجية لتبرير هيمنتها على المجتمعات.
رغم المخاض العسير الذي تمر به معظم بلدان الربيع العربي، فإن علامات التغيير واضحة جدا للعيان حتى في البلدان التي لم تشهد ثورات أو تحركات شعبية؛ وربما لن تتضح الآثار الكاملة لهذا التغيير إلا بعد عقود؛ وهي غالبا لن تقتصر على التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي، بل ربما تمتد لتشمل الجغرافيا السياسية أيضا كما نشهد بذور ذلك حاليا في العراق و سوريا.
* وائل العجي طبيب سوري بريطاني، باحث في علم النفس السياسي وحقوق الإنسان