إكرام عبدي: كل ذنبها أنها حاولت التحليق من جديد!
حين تكون حاضنة لأبنائها تظل “خادمة” تسهر على تربيتهم ومأكلهم وصحتهم وبالأعباء المنزلية للمحضونين حتى يشتد عودهم في الخامسة عشر، ليعودوا إلى حضن الأب. أما الولاية على تعليم الأبناء ومالهم وجواز سفرهم وبطاقتهم الوطنية وتأشيرة سفرهم وغيرها من التفاصيل “السيادية”، فلابد من السلطة التوجيهية والرقابية للأب “لرجاحة عقله” و”لنقصان دينها وعقلها”.
بعد سنوات من الزواج، لم تتبق لها سوى حشرجات مخنوقةٍ تحت الوسادة، وخيوط شمس تحتضر على أباجورتها المقفلة، وحلم مشتهى بترتيب بقايا حياتها المركونة على الرفّ، وعقد باهت، الكل مصر على تخليده وديمومته تبخيسا لأرقى حق لها: حق الحياة بحبّ.
جدران باردة نهِمة ظلت تقتات من ألمها. لكن، ماذا لو حرمتها من شهوة إشباع جوعها، واختارت حياة أخرى بعيدا بلا إذلال أو مهانة، ربما أشبه “بالحياة الجديدة” التي اكتشفها دانتي في صحراء حياته.
منذ صغرها؛ زرعوا الخوف في حديقة جسدها، أسرة ومدرسة وإعلاما. الخوف من الحياة بلا “جدران رجل”، وظل هذا الرعب يكبر ولا يكف عن التورّد يوما بعد يوم، بل صار يتدلى عن كتفيها، تذروه الريح لتزرع بذوره في التربة وينمو من جديد، ودون أن تنتبه، صارت تعتني به بإذعان خوفا عليه من الذبول.
ولأنها لم تعد تؤمن أخيرا بمعتقدات الجوقة حول قدرية الحياة؛ وفردوس الصبر الأمومي تلك التي تُوهنها وتُوهمها، ولا بصنمية مؤسساتية متكلسة تترسخ إسمنتيّتها يوما بعد يوم، كان عليها أن تستظل سماء أكثر حرية وجسارة، ولو بنصف قمر، وتجد طريقا لربيع قادم ولو سقطتْ سهْوا من الفصول.
ولأنها اختارت بكامل إرادتها وضع نقطة نهاية لقصتها الموجعة؛ برضى وتحدّ هادئ وبروح تعادل عدمية وعبثية هذا الكون، فقد أغاظت مؤسسات لن تسلم، بالتأكيد، من سخافاتها وإيذاءاتها العشوائية، فانتفضت مدونة الأسرة الملتفة بأردية فكر أبوي لمطاردتها، وهي الأم الحاضنة للجنس البشري، والمحافظة على بقاء النَّوع الإنساني من الانقراض. لكنها حين تكون حاضنة لأبنائها تظل “خادمة” تسهر على تربيتهم ومأكلهم وصحتهم وبالأعباء المنزلية للمحضونين حتى يشتد عودهم في الخامسة عشر، ليعودوا إلى حضن الأب. أما الولاية على تعليم الأبناء ومالهم وجواز سفرهم وبطاقتهم الوطنية وتأشيرة سفرهم وغيرها من التفاصيل “السيادية”، فلابد من السلطة التوجيهية والرقابية للأب “لرجاحة عقله” و”لنقصان دينها وعقلها”.
وحين تسول لها نفسها استئناف حياة جديدة، فحياتها ستصير ارتعاشة خوف من فقدان حضانة الأبناء ولو على سبيل ممارسة الضغط وكل أصناف الترهيب والتخويف، كما تفقد تعويض الأبناء إن كانت أرملة، فحري بها نذر حياتها لخدمة الأبناء ولا سبيل للذود عن حياة انسربت من بين يديها وغدت صحراء قاحلة.
كل ذنبها أنها حاولت التحليقْ من جديد؛ فعُوقبت بقصّ أجنحتها، مع أن الأجنحة كالكائنات الأسطورية، وإن قصت تنبت من جديد، قوية كجذع الشجر، وشرسة كالحلم.