من مصر، منى حلمي: الكتابة هى جنتي وإن حاصرني الجحيم
لا أقوم بتفصيل ملابس لأطفال لا يحملون إلا اسم الأب، ويلقون باسم الأم في سلة النفايات والسخرية والعار. لكن لا بأس من شراء هدية مخادعة لها، تنسيها أن عليها أن «تسكت»، حين يتكلم ذكر البيت المُهاب، وأن عمرها ضاع هدرا بين روائح غرف النوم والمطبخ، متظاهرة أن “التضحية بالذات” هي الفضيلة الكبرى، جائزتها “الجنة تحت أقدام الأمهات” في اليوم الآخر.
وحدها، وهبتني معنى حياتى، وأمطرتنى بثمار الاستغناء عن ملذات تنفر منها روحي، ولا يعترف بها جسدي.
هى المناعة ضد فتك فيروسات التهميش والسيطرة، تحميني من هجوم الأمراض، وتفاهة العقول، وهشاشة القلوب.
وحدها، صومعتي حينما يبخل الزمن بغطاء يدفئني، ولا أستطيع شراء مدفأة تتناغم مع طول قامتي.
شرنقة الأمان، تشبع جوعي، تروى ظمئي، تسليني، تقويني، تؤنسني، تعزيني حينما لا يفيد العزاء، تعوضني عن سرقة البيت، والوطن، والسطو المسلح على عمري القصير.
كلما التقيتها، تكون “ليلة زفاف”، على فارس وسيم الفكر والملامح والخلق والطباع، لا يفض غشاء بكارتي بالرجولة المضحكة الموروثة. يرفض أن يسلم نفسه إلى امرأة غيري. تحت الأرض وفوقها، يطالب بإلغاء استثمار الانسان في البشر.
وعدتني أن تبقينى شامخة فى السماء، لا أنكسر، ولا أنهزم، لا أجزع إذا منحتها أيامي المعدودة على الأرض.
أهدتني إسمي، وعنواني، ولون عيوني، وغجرية شعري الأبيض، وجواز السفر إلى خيال لا نهائي. لا غيرها يبقى معي في زمن الشيخوخة، بعد رحيل أحبائي، وتجاعيد المرآة المشروخة.
ستكون وحدها، “العكاز” الوفي الذى يحميني من السقوط، يلتقطني من الوقوع، يبعد عني سحابات القنوط، يعاشرني دون قيد أو شروط.
أمطرتني بدلال سخي العطاء، وبعد أن فقدت أمي، أرضعتني أمومة نادرة، على صدرها أشكو، وأبكي، أصحو وأغفو.
عندما ألفظ أنفاسي الأخيرة، ستكون هى الكفن الساتر اغترابي، والقبر المحاط بالورود الصفراء التي أحبها، والتراب الذي أخيرا ينهي أرق الليل، ونومي المتقلب على الأشواك.
“الكتابة”… ما أروع أن تكون همي، وشغفي، وألمي وفرحتي. هى سريري الذي لا أحد يشاركني على أرضه.
“الكتابة” بيتي الذي لا أحد يستطيع احتلاله. جسدي الذي تستحيل مصادرته، وهى وطن عصي المنال على إسقاط الجنسية.
ما أجمل أن تكون «الكلمات» قَدَري.. وطرقات اللغة بيتي.. ما ألذ أن أقضي العُمر فى اصطياد «الكلمات»، لا العرسان… وأن أجلس بالساعات أمام الصفحات البيضاء، لألونها بخواطري، لا أمام المرآة أتجمل وأتعطر وأتزوق وأزيل الشَعر الزائد، لإرضاء «رجل» أو إسعاد «زوج» ، أو أشارك فى التنافس المضحك الذى تمخض عنه فكر الذكور، فيتكرم القدر ويمنحني لقب ملكة العرب، أو ملكة جمال كوكب الأرض، أتمختر على السجادة الحمراء، وتنهال عليّ عقود التمثيل في السينما وعروض الأزياء وتقديم برامج ساخنة في الفضائيات، وعمل إعلانات الصابون والزيوت وكروت الشحن.
ما أحلى أن أقوم بتفصيل «الكلمات» على مقاسي وذوقي ومواسم عواطفي وفصول أمزجتي «يرتديها الكون»، يصبح أكثر بريقًا، وإلهاما. يرسل امتنانه بإرسال المزيد من “باترونات” الأبجدية… يعدني بتوفير جميع «أقمشة » اللغة.
لا أقوم بتفصيل ملابس لأطفال لا يحملون إلا اسم الأب، ويلقون باسم الأم في سلة النفايات والسخرية والعار. لكن لا بأس من شراء هدية مخادعة لها، تنسيها أن عليها أن «تسكت»، حين يتكلم ذكر البيت المُهاب، وأن عمرها ضاع هدرا بين روائح غرف النوم والمطبخ، متظاهرة أن “التضحية بالذات” هي الفضيلة الكبرى، جائزتها “الجنة تحت أقدام الأمهات” في اليوم الآخر.
ما أمتع اللحظات التى تأخذني إلى «كلمات» تعري الكذب.. تكشف الأوصياء على عقول وأجساد النساء، لإطفاء شهوات مكبوتة، حيث إن الكبت من الثوابت التى ترسم هويتنا، ومن الوفاء والواجب والأخلاق القويمة والرجولة، أن نحرص على استمرارها وترميمها وتبريرها.
كم أنا محظوظة لأن « الكتابة » هى طريقي المختصر للقفز فوق العبث، واللاجدوى، والعدمية. انتشلتني من العفاريت والأشباح التى تسكن روحي، وتشوش على بصيرتي. أخذت بيدى إلى أفخر أنواع الزهد والاستغناء.
شكلتنى «الكلمات»، وأنا جنين لم يتشكل بعد. ليس عندي أدنى شك أنني كتبت أول قصائدي وأنا داخل رحم أمي.
حينما كنت أرفض الطعام وأواصل البكاء، وأظل “أحرك وأفرك”، كانت أمي تسرع وتحضر لي ما يسكتني ويهدئني ويجفف دموعي. ليس عروسة بلهاء لأتدرب على الأمومة المقدسة التي لا أحبها ولا أقدسها.. وليست لعبة ذكورية تمهدني لأصبح فى عصمة رجل يقدس الطاعة. لم تكن تقوم بتلك الحركات البهلوانية المضحكة المبرمجة التى تعجب الأطفال. لكنها تسرع وتحضر لي القلم والأوراق.
كنت «أشخبط»، وأملأ كل الأوراق، بصور غير مفهومة. عندما أفكر الآن، أشعر بأنني عبرت عن تمردي، كتبت أجمل أشعاري، تخيلت عالمًا أعدل وأجمل، داخل تلك «الشخبطة»، ورسمت مصير حياتي فى تلك الصور التى لم تكن تعني إلا شيئًا واحدًا: سأكبر لأصبح كاتبة.. وحرة.. وشاعرة لا يعترف بها كهنة الِشعر، وامرأة لا تعترف بالنساء والرجال، المقيمين فى الفنادق الذكورية ذات الخمسة نجوم.
كل كلمة هي امتداد لـ “مزاجي” وحالتي النفسية والعاطفية والجسمية.
لا أؤمن بكلمة ليست تنتمي الى أوجاع وأحزان وأفراح وأحلام “ذاتي”.
لا أكتب حرفا لا يحمل نزف دمي ولا يشكل لونا أو خطأ أو ظلا في لوحة وجهي.
أعشق الفيلسوف فرديريك نيتشه لأسباب عديدة، منها رؤيته للكتابة، حيث قال: “لا أعترف إلا بالكتابات التي خطها الإنسان بدمه”.
الكتابة، بكل بساطة، هي “جنتي”، وإن كنت أعيش محاصرة بالجحيم.
مع “الكتابة” أشعر أنني “إلهة”، أصنع المعجزات والأشياء الخارقة. لكنني لا أطمع أن يؤمن بي أحد، ويقدم لي قرابين الطاعة والعبادة والولاء. “الكتابة” موتي ولحظة قيامتي.
أهذا هو السبب في كوني لا أخشى الموت؟
__________________________________________________________________________
الشِعر خاتمتي
======
كاتبة من شبرا
أنا كاتبة وشاعرة مصرية
أعيش فى شقة
لا تحوي إلا الضرورات
بحي شبرا العريق
لم أستورد
من الفليبين أو الصومال
خادمة وطاهية
لا أسكن الريف الأوروبي
فى كومباوند حوله الورد والأشجار
أو فيللا بالمراجيح وحمام السباحة
والبار والسونا وغرفة البخار
لا أهرول لشهرة التريند وأضواء الاعلام
لست حرم فلان من زعماء الاستثمار
أخوض الحياة وحدي
بالليل وبالنهار
أقاوم الموت المبكر لأحلامي
بكلماتي الحاملة فصيلة مزاجي
نزف دمي وعدم انتمائي
عندما ينهيني الجنون أو الانتحار
سوف يثار الجدل الصاخب
هل يجوز الترحم على كاتبة
سافرة الشَعر والوجه والأشعار
هل يغفر لها الواحد القهّار
ويرسلها إلى نعيم الجنات
أم ينزل عقابه
ويشويها خالدة
فى حفرة النار؟
مواضيع قد تهمك:
- من مصر، سارة أحمد فؤاد تكتب: لكن، لماذا نكتب؟
- نوال السّعداوي… حينَ تجاذبتِ الأضداد!
- نوال السعداوي في مواجهة الفكر الذكوري المتدين
- Marayana TV: فدوى مسك: كيف أنقذتهم القراءة