من مصر، هند الورداني تكتب: الكتابة تسحبك إليها… رغما عنك
الأمر أشبه بالغرق، ولكنك لم تمت. تنجو في وقت عصيب، تقذفك الأمواج على الشاطئ، وتلهث أنفاسك غير مبالٍ… إلا أن تتخلص من أثر البحر الذي عليك. تريد أن تُسقِط المياه …
الأمر أشبه بالغرق، ولكنك لم تمت. تنجو في وقت عصيب، تقذفك الأمواج على الشاطئ، وتلهث أنفاسك غير مبالٍ… إلا أن تتخلص من أثر البحر الذي عليك. تريد أن تُسقِط المياه عنك فتبحث ولا تنجو من ذاتك إلا بالكتابة!
نعم، الكتابة عملية تشبه بأن تتخلص عن غرق روحك بين الكلمات والمشاعر… بين مئات التساؤلات التي تطرح نفسها في عقلك رغماً عنك وبين ما تريد أن تُحدّث الناس به. هي أشبه بسارق النوم من عينك.
تشبه الرغبة في الحياة، والتمسك بأطرافها خشية الموت… نحسب أن الموت هو المضاد للكتابة… لو لم نكتُب لمتنا !
كما قال العتوم: “نحن نكتب؛ لأنّنا لا نملك إلاّ أن نكتب، أنْ نقول، أن نسرد، أن نحكي، وأنْ نقصّ كلّ ما في أعماقنا، ربّما لو توقّفْنا عن فِعل ذلك لمُتنا”.
الموت ، ذلك الهاجس الذي لا يفارق الكاتب. يبحث عن أفكار يسود بها بياض الورقة لترتاح روحه ويخبر الناس أن ثمة حياة أخرى غير التي يعيشونها. يخشى الكاتب، غير موته هو، موت الأفكار في عقله وحده تنتظر الإذن بالانطلاق… يخشى أن تتلاشى مفاهيم القصة ومفاتيحها.
لربما يؤمن الكاتب أن من حق الأطراف رؤية تفاصيل نجهلها نحن العامة، ويرى بالطبع أن من حق القارئ والأجيال القادمة فقط أن تحكم من المنتصر.
الكتاب يشبه مقطوعة موسيقية في عقل الكاتب… يعزف على بيانو فيكتب، فينتج من خياله كتابا.
لا يهدأ الكاتب إلا حين يدونّ كل ما يرويه عليه قلبه من حروفً تُوضع بكتاب..
الكتاب !!
الكتاب الذي تبدأ به وأنت في غرفتك وسط طقوسك المعتادة، قهوة وقلم لتدوين الملاحظات، حيثُ تتعثّر بحروف أقسمت ألا تتركك وحدك… تسحبك من روحك لتغدو بحياة لا تعرف عنها شيء. دعك من كل شيء… الكتاب الذي بين يديك قام برحلة رائعة، أتمنى لو أترحلها يومًا.
اقرأ أيضا: ليلى أبو زيد وزينب فهمي: هؤلاء 6 نساء بصمن تاريخ الكتابة الأدبية في المغرب (الجزء الثالث)
تكوين الكتاب يشبه آلة البيانو… يسير بين خطين: الأبيض والأسود.
الأبيض يترجم الأفكار والأحداث والثورات والحروب والانتصارات. الأبيض يعنى مشاعر الناس وأحداثهم المؤلمة والسعيدة وحالاتهم النفسية والمزاجية بالحب والكره وما بينهم من كلمات تصف.
الخيال هو العالم الموازي الذي يمنحك طاقة وصبرا على الواقع الأليم.
الأسود هو الحبر والقلم ولوحات الكتابة سواء من الآلة الكاتبة أو من الحاسوب المحمول.
الكتاب يشبه مقطوعة موسيقية في عقل الكاتب… يعزف على بيانو فيكتب، فينتج من خياله كتابا.
ذلك هو الخيال!
الخيال يمنحك أن تتخيل المكان والزمان فى بلاد غير البلاد، والعصر غير الذي تستيقظ فيه وتنام، والروائح التي لم تستنشقها روحك من قبل… كل ذلك وأكثر!
أن تربي جيلا يقرأ ويكتب، جيلا يرى أن العلم هو السلاح الأول والأهم لمحاربة كل ما هو فاسد… سنكتب ونوصي من بعدنا أن يكتبوا ويكتبوا.
حتى أنك أحيانا قد تمنح نفسك البطولة في القصة بدلاً من الآخر. الخيال يصنع الكثير. يصنع روايات يرثها جيل بعد جيل في أثر محمود. الخيال هو العالم الموازي الذي يمنحك طاقة وصبرا عى الواقع الأليم.
الخيال يصنع كاتبا! لحظة !
اقرأ أيضا: مليكة الفاسي وثريا السقاط: هؤلاء 6 نساء بصمن تاريخ الكتابة الأدبية في المغرب (الجزء الثاني)
أعترف أن ليس الخيال فقط من يصنع الكاتب ولكن الموهبة هي العامل الأهم… تتحكم بك وبكل حواسك، لتسيطر عليك بدايةَ من الحواس، التفكير، العقل، القلب… تغزو الأحلام في نومك. إذا سمحت الموهبة للنوم بزيارة عينيك، وهي مستيقظة، ولديها ما تخبر الورق به، عليك أيها الموهوب أن تلبي رغبتها، ومن ثم تفتح هي بوابات القلعة ليغدو النوم في عينك ساعات قليلة.
الأيام السابقة، سرقت الموهبة النوم من عيني… لكن الكتابة لم تكن الرغبة!
الخيال يمنحك أن تتخيل المكان والزمان فى بلاد غير البلاد، والعصر غير الذي تستيقظ فيه وتنام، والروائح التي لم تستنشقها روحك من قبل… كل ذلك وأكثر!
كان التساؤل هو السبب، غزت الأفكار والتساؤلات عقلي…
ماذا بعد الكتابة ؟ ماذا بعد ارتفاع الأدرينالين في جسمك عندما انتهيت من الكتابة ؟ ماذا بعد كلمة ” تمت” في نهاية الرواية؟ وماذا بعد النقطة “.” في قصيدة ؟
ماذا عن قبل البدء حين الفكرة تسبحُ في عقلك… فكرة الكتابة ذاتها؟
قال “هاروكي موراكامي” وهو يتحدث حين خُلقَتْ فكرة الكتابة في عقله!
قال : ( أعتقد أنني أستطيع تأليف رواية ) تلك العبارة قالها بعد أن كان يروي على نفسه أحداث أحد أشواط مباريات كرة القدم، وهو جالس بين الشوطين. عاد في قطار وابتاع لنفسه أوراقا وقلم حبر وبدأ يكتب. شعر بسعادة غامرة تحتل قلبه. يذكر أن “هاروكي” كان صاحب مطعم صغير وعازف بيانو وقتها.
اقرأ أيضا: خناثة بنونة وآمنة اللوه: هؤلاء 6 نساء بصمن تاريخ الكتابة الأدبية في المغرب (الجزء الأول)
الأمر أشبه بالوحي على المرء. أن ينفتح قلبك للكتابة وتسترسل الكلمات عليك كانسياب الماء في نهر عذب هادئ لا يشوبه شيء.
ماذا قبل الكتابة في حياة “إليف شافاق” التركية التي تحتل قلوب الكثيرين في شتى الأرض؟
كلمحة بسيطة، ذكرت “إليف” أنها صاحبت القصص والحكايات… وجدت فيهم على حد قولها رفاقها العقلاء. انبهرت إليف وهي طفلة بالقصص وحديث من لا حديث لهم كالبحر والشجر والزهور والحيوانات. لمعت في عينيها الحرية والإنفتاح والخلود. أهدتها والدتها (مفكرة) ذات يوم لتكتب فيها أحداث يومها أو أفكارها، وما تشعر به وتفكر فيه.
كانت مفكرة إليف الفيروزية اللون بمثابة الشرارة الأولى لتكتب… وبالفعل، كتبت إليف وعبرت بخيالها كل الواقع… وأصبحت روائية مهمة في عالم الأدب العالمي.
لو هذا ما بعد الكتابة وقبلها !
ماذا بعد موت الكاتب ؟ مجرد التفكير في الأمر مؤلم!
أن تفضل كاتبا وتحبه وتتعلم منه ويموت، فتلك سنة الحياة المبهمة لديك.
سنة 2014، وفي الثلاثين من نوفمبر، ماتت “رضوى عاشور” ، الأم الروحية لعالم القراءة والكتابة، الأخت الكبرى لنا… لطالما اصطحبنا قلمها في ليالي الشتاء ونهار الصيف… لطالما أصبحت كالوشم في جسدنا.
مات جسدها، لكنها أحيت قلوبنا وأحيت كل مكتبة يوجد بها أحد أعمالها، فحقا “لا وحشة في قبر رضوى” ، “لا وحشة في مكتبة فيها رضوى”…
افتتحت ندوة ألقتها في مدريد بعد نشر روايتها “ثلاثية غرناطة” باللغة الأسبانية.
قالت : “إنه التاريخ”، فالأمر دائماً يتعلق بالتاريخ. لم تمُت رضوى في التاريخ المدون بل تحيى في الطنطورية حيث فلسطين الحكاية الكاملة وفي غرناطة ومريمية. لم تمت رضوى… لأن أثقل من رضوى كان هنا بينا… حروفها نتلو منها كلما أثقلت الدنيا علينا.
لم تكن رضوى وحدها… العراب هنا بيننا… كتب للجميع، وفارق منذ شهور بدت كالسنوات العجاف.
أحمد خالد توفيق… ذلك الذي نصحنا أن اليوتوبيا ستصبح جزءا من واقع مجتمعنا. صدقت توقعاته !
كان الكاتب العربي الأول في أدب الرعب والفانتازيا والخيال.
مات “توفيق” وبقى خياله حاضراً يسبح في سماء الكلمات والكتب حين قال : “إنما أنا أخاف نفسي أخاف خيالي وما ينسج لي من صور”
ماتت نفسه وبقى خياله!
اقرأ أيضا: “مرايانا” يتذكر أب الأدب العربي نجيب محفوظ!
ولأن الكاتب لا يموت، وإن شهد العالم موته بجنازة مهيبة كما قال العراب في إحدى رواياته: “ستكون مشاهد جنازتي جميلة ومؤثرة، لكني لن أراها للأسف، بالرغم من أنني سأحضرها بالتأكيد”.
سنبقى نكتب مادامت الروح فينا… سيبقى من سبقونا قدوة لنا وبصيص أمل يذكرنا أن الكتابة ليست مجرد هواية، بل تربية وبناء جيل بكل معانيها.
أن تربي جيلا يقرأ ويكتب، جيلا يرى أن العلم هو السلاح الأول والأهم لمحاربة كل ما هو فاسد… سنكتب ونوصي من بعدنا أن يكتبوا ويكتبوا.
وإن سرقتنا الكتابة منا، وإن كانت الكتب العامل الأهم لصناعة عقولنا، فهنيآ لنا… تلك تجارة رابحة.