من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: أزهى عصور الإسهال
أخرج الطبيب من الدرج استمارة تتضمن أسئلة يبدو أنه يستعين بها على التشخيص. ارتدى نظاراته ووجهه إلي سؤالا غريبا بملامحه جادة: “عندك فيسبوك؟”. ارتسمت على وجهي ملامح الاستغراب ولم أجب سؤاله، فاعتبر سكوتي علامة رضا ثم عاجلني بسؤال أغرب: “قل لي الله يخليك قنوات اليوتيوب اللي شفت قبل ما تنعس؟”. شعره الأشيب ووجهه الوقور ألغيا لدي فكرة أن الرجل يمازحني. آثرت ألا أدخل معه في جدال حول علاقة الفيسبوك واليوتيوب بالمعي الغليظ…
يا لغدر الزمان… أنا الذي شهدت ألف وجبة شارع أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه طعنة من صوصيص كلاب أو ضربة من دجاج فاسد أو رمية من رمح شاورما مشبوهة، خذلتني بطني خذلانا مبينا واستسلمتْ لضربة إسهال غادرة، فلا كؤوس الزعتر استطاعت أن تسعفني، ولا ملاعق الكمون التي أسفّها سفّا أفلحت في التخفيف من معاناتي، وها أنا ذا أرقد اليوم على فراشي حتف أنفي كما يرقد البعير أعض على خشب السرير من الألم…
كم هي تعيسة تلك الحياة التي يشرف فيها الإنسان على الموت وهو يدق على أبواب المراحيض…
من باب الطاكسي خرجت وإلى العيادة دخلت ولمساعدة الطبيب شرحت حالتي الحرجة وتوسلتها بوجهي الشحوب الذي يحاكي وجوه الموتى أن تستعجل دخولي للطبيب. رمتني بنظرة حادة، وفوجئت بها تهب من كرسيها نحوي. ظننت أن صفعة ساخنة على خدي ستعقبها، لكنها اكتفت بالصراخ في وجهي: “ياك أسيدي… وهاد الناس اللي قدامك قرودة ولا شنو؟!”.
لم أتفوه بكلمة وتفاديت الاشتباك، ثم اتخذت لنفسي مكانا على الدكة في مواجهة وجوه تعلوها ابتسامات شامتة ومنتشية بفشل ما ظنوا، إثما، أنه مسرحية.
حافظت على هدوئي وثباتي الانفعالي يقينا مني بأنني سأدخل سريعا إلى الطبيب لأنهم حتما لن يتحملوا عاقبة إجباري على الانتظار إلى جانبهم.
ظللت أروح وأغدو بين قاعة الانتظار وبيت الراحة الذي لم يعد له من اسمه نصيب وتحول إلى مدفعية نفاثة تضخ روائح نتنة سرعان ما غزت جنبات العيادة وأزكمت الأنوف… تخلى الحضور الكريم عن شكه الديكارتي العميق في صدق معاناتي، وأُجري استفتاء صامت عن بعد، هُزّت فيه الرؤوس بالإجماع مشيرة لمساعِدة الطبيب بضرورة السماح لي بالدخول ولسان حالهم يقول: “دَخْلي الزّمر راه تقهرنا”.
استقبلني الطبيب مشكورا بكوب ماء يذوب بداخله قرص فوار كان له مفعول السحر في التخفيف من حدة الإسهال، وأراحني من التردد على المرحاض، ولو مؤقتا، حتى يتمكن الطبيب من أداء واجبه المهني في جو صاف وخال من الضباب المتردد، عسى أن يخلصني من محنتي ويتخلص من سحنتي وروائحي إلى الأبد.
أخرج الطبيب من الدرج استمارة تتضمن أسئلة يبدو أنه يستعين بها على التشخيص. ارتدى نظاراته ووجهه إلي سؤالا غريبا بملامحه جادة: “عندك فيسبوك؟“. ارتسمت على وجهي ملامح الاستغراب ولم أجب سؤاله، فاعتبر سكوتي علامة رضا ثم عاجلني بسؤال أغرب: “قل لي الله يخليك قنوات اليوتيوب اللي شفت قبل ما تنعس؟“. شعره الأشيب ووجهه الوقور ألغيا لدي فكرة أن الرجل يمازحني. آثرت ألا أدخل معه في جدال حول علاقة الفيسبوك واليوتيوب بالمعي الغليظ واخترت، ربحا للوقت، أن أخبره عن البوذنجالة البايتة التي أفطرت بها صباحا على الريق، سعيا مني إلى تسريع التشخيص لعلي أظفر بوصفة طبية أتوجه بها إلى أقرب صيدلية وأقتني الدواء قبل زوال مفعول القرص الفوار.
لم يبد أن قصة البوذنجالة أثارت فضول الطبيب، وكرر سؤاله بجدية وحزم شديدين محتسبا إجابتي خروجا عن الموضوع، ليتأكد لي بما لا يدع مجالا للشك، صحة خبر صراعه مع نقابة الأطباء التي سعت مرات عديدة إلى سحب رخصة مزاولته للمهنة، متهمة إياه بالجنون والعبث بصحة المرضى. كان ذلك بسبب المنهج التشخيصي الغريب الذي ابتدعه لتحديد مسببات المرض، خلافا لما يُدرّس في مدرجات كلية الطب.
لكن وللأمانة، سمعت شهادات للكثير من مرضاه تؤكد أن إجابتهم على أسئلته الغريبة وغير التقليدية مكنت من تحديد مكامن العلل التي انتابتهم وامتثلوا للشفاء على يديه.
صادف منهجه هوى في نفسي، فالأمعاء التي شهدت ألف وجبة شارع أو زهاءها لا يمكن أن تستسلم أمام بوذنجالة بايتة، ما جعلني أشك في أن القضية أكبر وأعمق ورجحت لدي مصداقية الطبيب.
أجبت عن كل أسئلته بحماس: “قل لي الله يخليك آخر مقال قريت قبل النعاس؟ … سمعت التصريح الحكومي البارح؟ … تفرجت على ماتش المنتخب؟ … هاز شي كريدي من البنك؟…مهاز مع القايد؟… إمتى آخر مرة شفت الأخبار فقناة عمومية؟ … دخلت لشي إدارة البارح؟…تابعت افتتاح الدورة البرلمانية ؟… عندك انستغرام؟ … سمعت الخطاب؟… متابع محاكمات الصحافيين؟ … مدمن على برنامج إذاعي؟…متابع مسلسل تركي؟… الأخ كيصوت في الانتخابات؟…الأخ كتسوطو لمدام… آخر تصريح لزعيم سياسي سمعته؟ … بلا كدوب كتشوف قنوات إكس إكس إكس؟…” إلى آخر اللائحة الطويلة.
اشتبه الطبيب في كون البرنامج الإذاعي الاجتماعي الشهير الذي أتابعه السبب الرئيسي في الحالة التي أصابتني. وللاطمئنان إلى سلامة تشخيصه صمم أن ألخص له في عجالة المداخلات التي عكرت مزاجي أثناء الاستماع إلى الحلقة التي بثت ليلة أمس.
لأقطع شكه باليقين كان يكفي أن أنقل له بأمانة ما سمعته من بطل حلقة تلك الليلة، المتصل الثائر، حارس الأخلاق المغوار.
دون أن يعرّف عن شخصه ومن دون أي مقدمات ولا سلام ولا هم يحزنون، طنطن المتصل الثائر آذاننا بصراخ هستيري لن تجد له تفسيرا إلا عند فرويد: “هادشي ماشي معقووول… اللهم إن هذا لمنكر، اللهم أهلك الظالمين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، لن نسلمكم عقولنا لن نسلمكم أخلاقنا لن نسلمكم أبناءنا لن نسلمكم عرضنا لن نسلمكم الوطن”. لم نفهم عن أي نحور يتحدث ومن المقصود بالظالمين، لكن على الأقل أدركنا أن الرجل عقد العزم على ألا يسلمنا شيئا، حتى أنه لم يسلم علينا.
استرسل ثائرا منفعلا يقول إنه لم يتصور أن يأتي اليوم الذي ترتكب فيه الفواحش نهارا جهارا بلا حشمة بلا حيا… حاول المذيع تهدئة ثائرته دون جدوى، فسلّم له الأثير حتى يهدأ ويبادر ويحكي لنا عن المنكر الذي قال إنه لم يكن حاضرا ليشهده بنفسه، وإلا لطارت الرقاب وكان مكانه اليوم خلف القضبان بتهمة الدفاع عن الشرف. قاطعه المذيع: ” قل لنا شنو وقع الله يخليك باختصار راه وقت البرنامج ضيق”. كل ما استطعنا تجميعه من كلامه أن الأمر يخص ابنته التلميذة في إحدى المدارس الإعدادية، حيث قرر زميلاتها وزملاؤها في الفصل الاحتفال بعيد ميلادها بطريقة خاصة والتحضير لمفاجأتها بشكل غير مألوف. وإذا به يصرخ بأعلى طبقات صوته: “واش يا عباد الله البنت دخلت القسم فعيد ميلادها، ناضو التلاميذ لعنة الله عليهم وقفو قدامها كلهم وخرجولها فوقت واحد …”…تيييت… وانقطع الاتصال.
ما هو ياترى الشيء أخرجه التلاميذ لابنته في وقت واحد؟ ولماذا بالضبط التلاميذ وليس التلميذات؟ وهل يستحق ما أخرجوه قطع الرقاب؟ وما علاقة ما أخرجوه بالشرف؟
النفس الأمارة بالسوء التي توسوس لك الآن بتلك الأفكار الخبيثة عن الشيء الذي أخرجه التلاميذ للفتاة، هي نفسها التي وسوست إلي وإلى المذيع وكافة المستمعين، وتقاطرت على البرنامج مكالمات تطالب بالاتصال برقم الأب المكلوم، بل ومنهم من تطوع وطلب رقمه ليرسل إليه تعبئة مضاعفة، فالأمر جلل وفيه قطع الرقاب وربما قطع لأشياء أخرى. وقبل أن يستسلم المذيع لضغوط الجمهور اتصل الثائر:
-ألو كتسمعني؟
– كنسعموك كنسعموك أش خرجو لبنتك؟
-خرجولها…خرجولها…
وانخرط صاحبنا في موجة هستيرية من البكاء -اسأل فرويد- واحتبست الأنفاس ونهش الفضول صدور الجميع، وكان لابد من التسلح بالصبر إلى أن جاء الفرج ونطق صاحبنا بصوت متهدج: ” التلاميذ أهلكهم الله وقفو قدامها كلهم… وخرجولها فوقت واحد من جيوبهم كيكة ديال “ميراندينا” مكتوب على غلافها “راك ديما في قلبي” و “ما نقدرش ننساك”، وحتى التلميذات الفاحشات الشاذات خرجولها “ميراندينا” مكتوب عليها “كنبغيك” و”أنت أحسن ما عندي”…قلة الحيا وقلة الدين وقلة التربية وقلة الأخلاق…لن نسلمكم الوطن” -آآآي مِّمْتي كرشي-. وأقفل مالك الوطن الخط في وجوهنا جميعا مع أننا لم نخرج لابنته شيئا.
صمتُ الطبيب المطبق والمقلق، ورعشة يده وهو يكتب لي الوصفة التي يجب أن أنتظم عليها بعد أن تأكد من تشخيصه، جعلتني أتمثل الحالة النفسية التي أصبح عليها بعد كل ما سمعه. لكن يبدو أنني أجهزت عليه تماما حين أطلعته، ويا ليتني ما فعلت، على الفتاوى التي تدفقت على البرنامج الإذاعي بخصوص نازلة “ميراندينا”، وكيف أن بعض جمهور المستمعين ومنهم نشطاء جمعويون طالبوا بحملة مقاطعة لشركة البسكويت التي تنتج علامة “ميراندينا”، التي تجرأت على وسم أغلفة منتجاتها بعبارات الحب الخليعة والخادشة للحياء، مستنكرين هذا الانحراف الأخلاقي الذي يستهدف النشأ ويحرض الأطفال على المنكر، و أقسم أحد خبراء -بالباء أو بالراء كما تشاء- علوم التربية بأنه سيطلق عريضة لجمع أكبر عدد من توقيعات الغيورين على الفضيلة للمطالبة برأس الشركة وجعلها عبرة لكل المتآمرين.
غزت روائح نتنة مكتب الطبيب. لا تظلمني أرجوك فقد كنت بريئا منها براءة كيكة “ميراندينا” من نزيف القيم. لكنني سرعان ما تبينت مصدر الرائحة حين فوجئت بالطبيب يمسك ببطنه ويعض على خشب مكتبه من الألم. نظر إلي نظرة المودع وطلب مني بوجه شحوب وصوت أقرب إلى الأنين أن آخذ بيده إلى بيت الراحة.
لكن “فاتِ المَعاد”… وكان أمر ربك مفعولا.
وفي مشهد سريالي، تحولت وزرة الطبيب البيضاء إلى ما يشبه راية اليابان بعد أن تفنن معيه الغليظ في رسم بقعة حمراء على مؤخرته.
لم يفقدني هول المنظر القدرة على التفكير ورد الفعل السريع، تناولت بحركة خاطفة الوصفة الطبية من على مكتبه، استدعيت كل مخزون الشجاعة لدي واندفعت مسرعا نحو مكتب مساعدته، سلمتها الوصفة ونصحتها لوجه الله أن تطلق ساقيها للريح نحو أقرب صيدلية لأن حالة الطبيب مستعجلة … وهربت.