من اليمن، حسين الوادعي يكتب: الحرية.. أول قضية فلسفية ناقشها المسلمون وأكثر قيمة فشلوا في الانتصار لها!
إذا كان الفكر الإسلامي قد طرح قضية الحرية كعلاقة بين طرفين: “الله والإنسان”، فإن الفكر اليوناني كان قد بدأ الجدال حول قضية الحرية كعلاقة بين طرفين: “الطبيعة والإنسان”. ولأن الطبيعة قابلة للدراسة والتفكير والتمحيص، تمكن الفكر اليوناني من تطوير نظرته لقضية الحرية وصولا إلى عصر النهضة والتنوير والحداثة. أما بالنسبة للمسلمين، فقد تجمدت قضية الحرية لأن أي علاقة يكون طرفاها “الله والإنسان”، ستنتهي بلا شك على حساب الإنسان.
استورد العرب والمسلمون الكثير من المفاهيم والقيم الحديثة من الغرب. إلا أن هناك مفهوما جوهريا في عالم اليوم دشن العرب القول فيه في فتره مبكرة جدا ودون تأثر بأي فكر آخر. هذا المفهوم هو الحرية.
نعم… بدأ الجدال حول فكرة الحرية مع بداية سيطرة الأمويين على السلطة وتطوير الأمويين لإيديولوجيا “الجبر“. كان الأمويون يحاولون تبرير استيلائهم على السلطة بالقوة، بقولهم إن الله قد كتب في الغيب أنهم سيستولون على السلطة، وبالتالي لا راد لقدر الله. وكان الخلفاء الأمويون عندما يقتلون أحد معارضيهم، يبررون ذلك بكونهم لم يفعلوا إلا ما كتبه الله وقدره لهم.
كان هدف هذه الجبرية تحصين أفعال الحكام من النقد، والأخطر من ذلك، اعتبار الاعتراض عليها اعتراضا على إرادة الله. والهدف النهائي بالطبع مصادرة أي مجال للمعارضة أو التغيير.
كانت خطورة الجبرية الأموية أنها تقود بالضرورة إلى سلب الإرادة عن الانسان باعتباره مجرد آله مسيرة لا دور لها في أي شيء تفعله، سواء كان هذا الفعل خيرا أو شرا. قد يبدو هذا المفهوم بسيطا، لكنّ له تبعاته الدينية والسياسية الكبيرة.
المشكلة الأولى التي نتجت عن هذا الفهم للقدر، أننا لو سلمنا جدلا أن كل شيء بقدر الله وأنه لا دور للإنسان إلا الاستسلام للقدر، فإننا نضرب مفهوم العدالة الإلهية في الصميم. إذ كيف يحاسب الله الناس على ذنوبهم وهم لا يملكون شيئا حيالها، ما دامت كلها حتمية ومقدرة؟ لكي يحاسب الله الناس، لا بد أن يكون لهم القدرة على الاختيار، أي “الحرية”. في هذا الإطار، ظهر أول سؤال فلسفي في تاريخ الإسلام: سؤال “هل الإنسان مسير أم مخير“؟
تحولت إيديولوجيا الجبر الأموي إلى نظرة شاملة للحياة… نظرة تحدد موقع الإنسان من العالم ومن الدين ومن السياسة! وكان لابد لمن يريد أن يقف ضد التسلط الأموي، من البحث عن إيديولوجيا توجهه، فكان أن ظهر المعتزلة بفكرة مسؤولية الإنسان عن أفعاله.
لم يكن الفصل بين الدين والسياسة ممكنا على المستوى العرفي في ذلك الزمن. لهذا، عندما أراد المعتزلة الدفاع عن حرية الانسان، لم يدافعوا عنها على مستوى السياسة (حرية الفعل، وبالتالي حرية اختيار الحاكم)؛ وإنما ذهبوا للدفاع عنها على المستوى اللاهوتي (العدالة الإلهية تقتضي أن يكون الانسان مخيرا لا مسيرا). وكان أن تحول النقاش حول حرية الاختيار إلى نقاش حول طبيعة الله وصفاته.
لعل هذا كان طبيعيا، لأن النقاش تم قبل لقاء المسلمين مع الفلسفة اليونانية. ذلك اللقاء الذي لم يتم رسميا إلا مع حركة الترجمة الواسعة في العصر العباسي. وكان الفن العقلي الذي طوره المسلمون لمناقشة قضية الحرية هو “علم الكلام“، أي كيف نتكلم عن الله وصفاته ونثبت وجوده وعدالته. فالصورة التي نحددها لله تؤدي بالضرورة الى الصورة التي نحددها للإنسان، والعكس بالعكس.
لكن، للأسف، لم تخرج نظرة المعتزلة وحركات المعارضة الإسلامية الأولى حول اختيار الحاكم من الإطار العام للفكر السياسي الإسلامي، وهو الإقرار بقبول الخلافة بالقوة، إذا توفرت الشروط اللازمة في الحاكم.
كان النقاش حول حرية الإنسان يضيق تدريجيا لينحصر في الإطار الديني-السياسي. وتبنت حركات المعارضة للحكم الأموي المفهوم المعتزلي للحرية، حتى يتمكنوا من خلاله من إسقاط السلطة تحت مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. لكن مفهوم الحرية لم يتوسع أبدا ليتجاوز هذا الاطار الديني السياسي الضيق.
النقاشات حول الجبر والاختيار كانت تدور حول البعد الديني لحرية الإنسان (كيف يحاسب الله الإنسان على المعاصي وهو مجبر على فعلها؟)، وليس حول البعد السياسي (حرية الفرد في تغيير الحاكم). لكن الهدف السياسي لم يكن بعيدا عنها، بل كان السبب الرئيسي في احتدامها. لكن، بعد ذلك، تراجع الهدف السياسي للحرية، فقد تحول المعتزلة أنفسهم إلى مستبدين ما إن تحالفوا مع الخليفة العباسي المأمون؛ وطرح الشيعة، وهم أبرز مؤيدي المعتزلة في مسألة حرية الإرادة، تصورا متخلفا عن الحاكم يحوله إلى إله ويصادر أبسط درجات الحرية لدى المسلم، ليس في اختيار الحاكم فقط بل حتى في حياته اليومية.
ولعله جدير بالملاحظة أن الفكر الإسلامي طرح قضية الحرية على الدوام كصراع بين طرفين. طرح المسلمون الأوائل الحرية كقضية صراع بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، وكان أن انتصرت الإرادة الإلهية مع سقوط المعتزلة وصعود الأشاعرة وهيمنة تيار أهل السنة والجماعة الذي ينفي أيَّ حرية للإنسان.
في العصر الحديث، أعيد طرح قضية الحرية في أضواء جديدة، لكن أيضا كصراع حدي بين طرفين. فهناك من طرحها كصراع بين حرية الشعوب في الاستقلال وحرية الأفراد ورؤوا أن الاستقلال من هيمنة المستعمر مقدم على إعطاء الحريات المدنية للأفراد. ثم جاء بعد ذلك من طرحها بصفتها صراعا بين الحرية والعدالة، فرؤوا أن البناء العادل للمجتمع وتوزيع الثروات مقدم على قضايا الحريات، بل رؤوا تناقضا أبديا بين العدالة والحرية. ثم جاءت مرحلة الصحوة، لتطرح قضية الحرية في إطار صراع جديد بين حرية الفرد وهوية الأمة، ومرة أخرى كان هناك تناقض بين الحفاظ على هوية الأمة وبين منح الحريات الفردية العامة للأفراد. تناقض لا يمكن حله إلا بتأجيل وتعطيل قضية الحرية إلى أجل غير مسمى.
إذا كان الفكر الإسلامي قد طرح قضية الحرية كعلاقة بين طرفين: “الله والإنسان”، فإن الفكر اليوناني كان قد بدأ الجدال حول قضية الحرية كعلاقة بين طرفين: “الطبيعة والإنسان”. ولأن الطبيعة قابلة للدراسة والتفكير والتمحيص، تمكن الفكر اليوناني من تطوير نظرته لقضية الحرية وصولا إلى عصر النهضة والتنوير والحداثة. أما بالنسبة للمسلمين، فقد تجمدت قضية الحرية لأن أي علاقة يكون طرفاها “الله والإنسان”، ستنتهي بلا شك على حساب الإنسان.
لقد كان العائق أمام الحرية الانسانية عند اليونان هو الطبيعة والمجتمع. وبسبب قدرة الانسان على اختراع آليات للتغلب على هذه العوائق، ظلت مفاهيم ومجالات الحرية تتوسع في أوروبا. أما في العالم الإسلامي، فقد كان العائق أمام حرية الإرادة الإنسانية هو القدر أو الإرادة الالهية، وكان كل فكر يدافع عن الإرادة الإنسانية يقع في مطب تقزيم الإرادة الإلهية. ورغم محاولة ابن رشد الخروح بقضية الحرية من الإطار اللاهوتي إلى الإطار الاجتماعي- الطبيعي بعد تأثره بالفلسفة اليونانية، إلا أن محاولته لم تنجح، شأنها شأن سائر محاولاته الفلسفية للانتصار للعقل والفلسفة.
في حين كان الغرب يدخل عصر الحداثة، كانت قضية الحرية عنده تنتقل من الإطار الاجتماعي-الطبيعي إلى الإطار السياسي. وبدلا من تقديم قضية الحرية كقضية صراع بين طرفين، “الانسان والطبيعة” أو “الانسان والمجتمع” ، صارت قضية الحرية تطرح كعلاقة بين طرفين “الفرد والدولة”؛ وكان هذا التحول هو الأساس والقاعدة الذهبية التي انتقل فيها الغرب من نقاش “الحرية” إلى نقاش “الحريات”. أي من نقاش الحرية كمفهوم عام وفلسفي عكسه هو “الضرورة” إلى مفهوم سياسي عكسه هو “السلطة”، وكان هذا التحول الهام فاتحة إقرار قائمة الحريات الشخصية والمدنية والسياسية التي نقلت الحرية من النقاش الفلسفي إلى الحياة اليومية.
أما في العالم الإسلامي، فقد تجمدت قضية الحرية عند مرحلتها اللاهوتية كعلاقة تنازع بين طرفين هما الله والإنسان، وجاء القرن التاسع عشر والفكر المعتزلي المدافع عن حرية الإنسان قد تراجع وساد الفكر الأشعري الذي يؤيد “جبرية” الإنسان وانعدام إرادته أمام الإرادة الإلهية.
ثم جاء عصر النهضة وعصر الاستقلال ليقذف بقضية الحرية في متناقضات قاتلة وليختلق تعارضا بينها وبين الاستقلال تارة أو بينها وبين التنمية تارة أخرى أو بينها وبين الهوية في آخر المطاف.
ورغم البداية المبكرة للنقاش الفلسفي حول الحرية في التراث الإسلامي، إلا أن قضية الحرية في أمس الحاجة لإخراجها من ذلك الإطار الخانق الذي وضعها دائما في حالة صراع مع قيمة إيجابية أخرى. ولعل هذا هو الخطا الذي وقع فيه عبد الله العروي عندما أراد تأسيس مفهوم الحرية بالعودة إلى التراث الإسلامي. وقد أوقعه هذا الخطأ في نقاشات بلا جدوى حول الحرية في مقابل “العبودية“، أو الحرية عند المتصوفة بمعنى التحرر من قيود الجسد، بينما كانت نقاشات الحرية تدور في التراث الاسلامي تحت عناوين أخرى مثل الجبر والاختيار والقدر والتسيير والتخيير والعدالة الإلهية.
تبدو قضية الحرية اليوم الخاسر الأكبر بعد كل هذه المواجهات. ولعلنا في أمس الحاجة لإعادة الاعتبار لهذه القضية القديمة \ الجديدة بوضعها في إطارها الصحيح: إطار السياسة والقانون والعلاقة بين الفرد والدولة أو الفرد والمجتمع، دون اختلاق تعارضات بينها وبين القيم الإيجابية الأخرى كالعدالة والمساواة والاستقلال والتنمية.