حسن الحو: غربة الأوطان… وغربة الأفكار
إذا استمر الوضع على هذه الحالة: مجتمعاتٌ تبني وتراكم ومجتمعات جامدة تفتك بكل محاولة للإصلاح، فربما نجد أنفسنا يوما، كما قال نجيب محفوظ، قِبلة للراغبين في زيارة الأقوام البدائية، السائحين في بلداننا للتفرج على تخلفنا وبربريتنا… أو نصحو يوما فلا نجد على كوكب الأرض إلا أنفسنا، بعدما غادرت الأمم المتحضرة للسكن في الكواكب المكتشفة
الغربة و الاغتراب أو الغريب من الأمور هو لونٌ فريد وسط ألوان متجانسة أو تغريدة كروان وسط ببغوات ناعقة أو تَحَضُّرٌ وسط همجية فاشية أو نظام وسط فوضى عارمة أو فكر حر وسط معتقدات شائعة.
الغربة في كل ذلك ألم وعزلة ومنفى اختياري للذات المتمردة؛ فكما يحس المغترب عن وطنه بألم الفراق وعنصرية المُضيف والتهاب الأشواق وطول الليالي، يحس أضعافَ ذلك المغتربون في أوطانهم المنعزلون بأفكارهم من رتابة الواقع وشائع المعتقدات.
إذا صرحوا بما يعتمل في روعهم من تناقض مع حيوات الناس وما يعيبونه عليهم من جمود وتخلف، فمقاصل الإعدام وأعواد المشانق جاهزة لمصادرة الحياة. والتاريخ حافل بقصص المغتربين الذي جرفهم نعيق القطيع عند إعلانهم عن بعض فكرهم.
اقرأ أيضا: موقف ابن رشد الأندلسي من صورة الجنة والنار في الخطاب الديني
سقراط أُعدم بتهم إفساد أخلاق الشباب وازدراء الآلهة، وأُحرق لسان الدين ابن الخطيب وكتب ابن رشد وحُكم على كاليلو بالإقامة الجبرية ونُفي موليير وفيكتور هيكو وأعدم المفكر السوداني محمود محمد طه.
صكوك الاتهام بالهرطقة والزندقة جاهزة لا تحتاج إلا الى فتاوى شيوخ عطلوا ملكات الابداع والتفكر وحشوا أدمغتهم بحفظ متون عفا عنها الزمن ليبسطوا وصايتهم على المجتمعات والقطعان المغيبة.
بقدر ما يحس المغترب بألم الغربة، يجد متعةً في مناجاة أفكاره وانعزاله عن سماجة الناس وروتين حياتهم. التلذذ بالمعارف والأفكار لا يقل عن تلذذ العامة بإشباع الغرائز والنزوات. بل أن متعة الفكر أدوم وأطول…
إذا كانت الأمم المتحضرة قد قطعت أشواطا طويلة لنشر ثقافة الفكر وإيجاد شروطه من حرية وتعليم ورفع رقابة الدين والدولة وتعويض ذلك بنشر أساليب الحوار والإقناع وتقبل الرأي والرأي الآخر، حتى غدت دولهم جنات زاخرة بالعلوم وبساتين للفكر، فإن ما يسمى بالعالم العربي لازالت أرضه لا صوت يعلو فيها على صوت التخوين والاتهام بالكفر والعمالة.
اقرأ أيضا: إذا طالع العرب أنفسهم في مرايا يابانية، فهذا ما سيرونه…
معضلة الفكر فيه معضلة مركبة من دائين عضالين ينخران كل محاولة للتحديث: أولهما سلطة لا تريد هدم الفكر العتيق الذي يُكسبها الشرعية السياسية ويضمن لها ولاء المجتمع؛ وثانيهما سلطة دينية مثمثلة في حركات الكهنوت الديني وحركات الإسلام السياسي المستثمرة في الوضع السياسي والمتاجرة بالدين في عقول البسطاء.
هذان الداءان يقاومان كل جرعة من الحرية ويقفان في وجه كل محاولة للتحرر الفكري ويضمنان بذلك استمرار العطب الوجودي في حركة تطور المجتمعات.
إذا استمر الوضع على هذه الحالة: مجتمعاتٌ تبني وتراكم ومجتمعات جامدة تفتك بكل محاولة للإصلاح، فربما نجد أنفسنا يوما، كما قال نجيب محفوظ، قِبلة للراغبين في زيارة الأقوام البدائية، السائحين في بلداننا للتفرج على تخلفنا وبربريتنا… أو نصحو يوما فلا نجد على كوكب الأرض إلا أنفسنا، بعدما غادرت الأمم المتحضرة للسكن في الكواكب المكتشفة.
اقرأ أيضا: علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين الذين اتهموا بالزندقة والكفر
كاتب وموقع رائع. مزيدا من التنوير وتحرير العقول.
هل يملك صاحب المقال صفحة على وسائل التواصل يمكن تتبع مقابلته والتواصل معه؟ وشكرا جزيلا