محمد سبيلا… المفكر الذي خبر دروب الحداثة وعثراتها في المغرب
“مثقف فاعل، مثلت دروسه وكتاباته السبيل إلى تطوير الفعل الفلسفي وإشاعته في المغرب، وأحد السباقين لتأكيد أهمية الفلسفة كمسار لنشر القيم وتحرير اجتهادات الإنسان في قراءة الواقع”.
هذا بعض من سيرة المفكر والفيلسوف المغربي الراحل محمد سبيلا
توفي صباح الثلاثاء 20 يوليوز 2021، المفكر المغربي محمد سبيلا، متأثرا بتداعيات كورونا…
في الذكرى الأليمة لوفاته، تستحضر مرايانا أهم محطات حياته وأبرز أفكاره.
—-
نادرون هم من لا يركنون إلى الجاهز من الأفكار، ويهوون الشغب الفكري… أحدهم اسمه محمد سبيلا.
محمد سبيلا يعد أحد أهم من جاد بهم الزمن على المغرب، من مثقفين ومفكرين، اشتغلوا بنكران ذات طوال حياتهم على مشاريع فكرية رأوا فيها تقعيدا للمجتمع الذي يطمحون إليه.
اقرأ أيضا: عبد الله العروي… صاحب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”
يقول وزير الخارجية الأسبق، محمد بن عيسى، ذات تكريم لسبيلا في منتدى أصيلة الثقافي، إنه؛ أي محمد سبيلا: “مثقف فاعل، مثلت دروسه وكتاباته السبيل إلى تطوير الفعل الفلسفي وإشاعته في المغرب، وأحد السباقين لتأكيد أهمية الفلسفة كمسار لنشر القيم وتحرير اجتهادات الإنسان في قراءة الواقع”.
في هذا البورتريه نبحر في مسار حياة محمد سبيلا، الذي خبر فيه دروب الحداثة في المغرب… تطلعاتها، إخفاقاتها، ونجاحاتها “المحدودة”.
ولد محمد سبيلا ذات يوم من عام 1942، بمدينة الدار البيضاء، وفيها درس المرحلتين الابتدائية والثانوية، قبل أن ييمم رحاله صوب الرباط ليدرس الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية.
سافر سبيلا لاحقا إلى باريس لينال شهادة الإجازة في الفلسفة بجامعة السوربون. مرام تحقق له عام 1967. ولأن طموحه الدراسي كان جامحا، نال دبلوم الدراسات العليا عام 1974 ودكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1992، من كلية الآداب بالرباط.
اقرأ أيضا: طه عبد الرحمن… فقيه الفلسفة المغربي
سبيلا أثناء مساره الدراسي الطويل، اشتغل مدرسا بالموازاة. كان أستاذا جامعيا في كلية الآداب بالرباط، وتقلد أيضا بين عامي 1972 و1980 منصب رئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس في كلية الآداب بفاس.
سبيلا اشتغل في الفلسفة، في زمن اشتدت فيه الحرب عليها مقابل إفساح المجال للتيار الإسلاموي، بداية من ثمانينيات القرن الماضي.
سيتولى سبيلا بين عامي 1994 و2006 مهمة رئاسة الجمعية المغربية للفلسفة، كما سيدير مجلة “مدارات فلسفية” في أعدادها الثمانية عشرة الأولى. بجانب ذلك، كان مداد قلمه سيالا فياضا؛ ذلك أنه نشر عددا لا بأس به من المقالات والدراسات في صحف ومجلات مغربية وعربية، مثل “الاتحاد الاشتراكي” و”أقلام” و”الفكر العربي المعاصر” و”المستقبل العربي”.
اقرأ أيضا: محمد عابد الجابري… المفكر الذي وضع العقل العربي على مشرحة النقد 2/1
أما في التأليف، فلا يقل الأمر غزارة، وقد تراوحت كتبه ما بين البحث الفكري والفلسفي وكذا الترجمة، وإن كان أكثر ما استأثر باهتمامه، اشتغاله على سؤال الحداثة.
هكذا، نقرأ له “مدارات الحداثة”، و”الحداثة وما بعد الحداثة”، و”الأصولية والحداثة”، و”للسياسة بالسياسة”، و”في الشرط الفلسفي المعاصر”، و”في تحولات المجتمع المغربي”، وما إلى ذلك كثير.
وفي الترجمة، “التقنية-الحقيقة-الوجود” لمارتن هايدغر، و”نظام الخطاب” لميشيل فوكو، و”الفلسفة بين العلم والإيديولوجيا” لألتوسير، وما إلى ذلك عديد أيضا. سبيلا، بالمناسبة، عضو في اتحاد كتاب المغرب منذ عام 1967.
اقرأ أيضا: محمد عزيز لحبابي… المفكر المغربي الذي ترشح كأول عربي لجائزة نوبل
يقول الباحث في علم الاجتماع، عبد الرحيم العطري، في تقديم لحوار أجراه مع سبيلا، إن الأخير منارة بارزة في المشهد الثقافي المغربي؛ إذ ارتبط اسمه بالبحث العميق في سؤال الحداثة والحاجة إلى الفلسفة، ناهيك عن كونه “عاشق للشغب الفكري، راغب أبدا في النقد والمساءلة، لا يركن إلى الجاهز من الأفكار والطروحات، ويدعو دائما إلى خلخلة ومداعبة المفكر واللامفكر فيه”.
“التحديث بالنسبة له تحديث للشرط الإنساني، وتحديث لوعينا بالتاريخ… وهو ما جعل جهوده تتعرض لأنواع من الحصار والتهميش من قبل حشود القدامة والتيارات الأصولية الجارفة”.
كما أسلفنا الذكر، أكثر ما اهتم به سبيلا، البحث في سؤال الحداثة وما بعد الحداثة وعلاقته بالواقع المغربي، إضافة إلى مسألتي الدولة المدنية وعقلنة الخطاب الديني.
يرى سبيلا أننا في العالم “العربي” اقتبسنا فقط جزءا من الحداثة وهو الحداثة السياسية، والحديث هنا عن الانتقال الديمقراطي، بينما الانتقال إلى ثقافة الحداثة يبدو عسيرا؛ ذلك أن الزمن الثقافي أبطأ من الزمن التاريخي، على حد نظره.
اقرأ أيضا: محمد أركون… المفكر الذي لم يهادن التراث والفكر الإسلامي!
سبيلا يعتبر أن المجتمعات التي عرفت ثورات الربيع “تعيش مخاضات تخرج فيها من إطار التقليد المتزمت ومن الإسلام الحركي العنيف، إلى آفاق إسلام حركي ديمقراطي أو ديمقراطية إسلامية، وهذه خطوة من خطوات التاريخ إذ أننا لا ننتظر قفزات”.
تكمن أهمية مساهمة سبيلا في خلق رابطة قوية بين التحديث والعقلانية، وفق المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي، في أن “التحديث بالنسبة له تحديث للشرط الإنساني، وتحديث لوعينا بالتاريخ… وهو ما جعل جهوده تتعرض لأنواع من الحصار والتهميش من قبل حشود القدامى والتيارات الأصولية الجارفة”.
اقرأ أيضا: بول باسكون… الابن العاق للسوسيولوجيا الكولونيالية في المغرب
الواقع أن سبيلا اشتغل في الفلسفة، في زمن اشتدت فيه الحرب عليها مقابل إفساح المجال للتيار الإسلاموي، بداية من ثمانينيات القرن الماضي. لكنّ أستاذ الفلسفة نور الدين أفاية، أشار في ندوة سابقة احتفت بسبيلا، إلى أن الأخير استطاع أن يتصدى لهذا التيار من خلال دعوته إلى بناء “ذاتية مغربية مبدعة”.
تراوحت كتبه ما بين البحث الفكري والفلسفي وكذا الترجمة، وإن كان أكثر ما استأثر باهتمامه، اشتغاله على سؤال الحداثة.
رهان سبيلا الكبير، حسب أفاية، كان “تأكيد الانتماء إلى زمن العالم، إلى الحداثة، عبر تشجيع الإبداع في مجالات الفلسفة والعلوم الإنسانية، والتفكير في مهام الفكر وأدوار المثقف في مواجهة حشود الفكر الغيبي، وتثمين الفكر الدنيوي في مباحث الجسد والمرأة والروابط الاجتماعية والوطنية وكيفيات نبذ العنف، والتفكير في القضايا المتصلة بالوجود المشترك والقانون والديمقراطية”.
اقرأ أيضا: المجتمع المغربي… محافظ أم منفتح؟ 2/1
إلى غاية وفاته يوم 20 يوليوز 2021 متأثرا بتداعيات إصابته بفيروس كوفيد 19، ظل سبيلا يساهم من خلال مقالاته وبعض الخرجات الإعلامية في تحليل أعطاب الانتقال إلى الحداثة في المغرب، باصما على مسار متفرد ومتميز من التفاني والحلم في التغيير، منح له، نظيره، مكانة مرموقة في الفكر المغربي.