مّي رقية، حكاية تهجير من و… نحو وطن
…بعد التهجير القسري الأول لمي رقية، أوائل السبعينات، الذي شتت روحها، جاء مرض الزهايمر الذي ينخر ويفتت خلايا الذاكرة، لتمتطيه مي رقية سفينة رجوع، بل إرجاع…
بل… حكاية تهجير ثان في القرن الواحد والعشرين، حيث أخذ أبناؤها قرار ترحيلها إلى المغرب، لأن ظروفهم الاجتماعية والمهنية… لا تسمح لهم برعايتها.
عندما تكون الهجرة اختيارا شخصيا وطوعيا، سواء لأسباب اجتماعية أو اقتصادية وسياسية، يكون تحمل التبعات الاجتماعية والنفسية للغربة أقل صعوبة.
لكن هذا التحمل، يصبح أكثر صعوبة حين يتحول خيار الهجرة إلى تهجير (شبه قسري) وغير اختياري. وهذا ما فرض على عدة نساء مغربيات خلال السبعينيات. تهجير إلى عدة دول أوروبية، منها فرنسا. تهجير التحاق بأزواج هاجروا من أجل لقمة العيش.
عدة سيدات مغربيات استطعن الخروج من أسوار شقق الغربة، وحاولن الاندماج في مجتمع جديد وغريب عنهن، وتأقلمن بعض الشيء مع عاداته… واستطعن اقتحام سوق الشغل، خصوصا في مجال النظافة والتجارة وبعض المهن القليلة التي استطعن الانخراط فيها، وتمكن من تعلم اللغة الفرنسية، سواء عن طريق ورشات تعليم اللغة التي وفرتها لهن الدولة، أو عن طريق التواصل الاجتماعي والاحتكاك بالفرنسيين والفرنسيات.
هذا الصنف من المغربيات، كان عليهن في الآن نفسه، تربية أبنائهن، ومساعدة أزواجهن ماديا، رغم الصعوبات والمعاناة التي مرت بهن، فيما ضاعف ارتفاع نسبة الأمية في صفوفهن، من حدة هذه التحديات التي طبعت رحلة حياتهن بفرنسا.
لكن…
وجود هذا الصنف من المغربيات المهاجرات خلال السبعينيات إلى فرنسا، لن يجعلنا نغفل وننسى صنفا آخر منهن.. مهاجرات… لم يستطعن الخروج من قوقعة شققهن، منذ أن وطأت أقدامهن فرنسا أول مرة. تماما كما وقع لـ “مي رقية”.
“مّي رقية” التي… رسخت في ذهن ابنها رشيد، تلك الصورة التي لم تغب عن ذاكرة طفولته، صورة أمه وهي تتوسل أباه، كي يعود للاستقرار بالمغرب، بدل أن تلتحق هي وأطفالها به بالمهجر بشمال فرنسا، حيث يعمل بمنجم إلى جانب عدد كبير من المغاربة الذين استقدمتهم شركات التنقيب في المناجم خلال السبعينيات.
توسلات ودموع “مّي رقية” لزوجها، تختزل دموع العديد من المغربيات اللواتي كن رافضات ترك بلدهن وقراهن ومدنهن وأحيائهن، رافضات أن يتركن عوالم حياتهن وتقاليدهن، أن ينزعن من حضن عائلاتهن، ويهجرن غصبا إلى عالم وبلد ومستقبل مجهول ومخيف لهن.
توسلات تخوف وخوف لم ينتبه إليها الأزواج، أو ربما تجاهلوها، لأنهم هم كذلك… لم يختاروا هذه الهجرة، بل فرضتها عليهم الفاقة والفقر.
حكاية مّي رقية، كما يرويها ابنها رشيد، هي مثل حكايات كثير من مغربيات الستينات والسبعينات.
حكايات… اختلفت فقط في بعض التفاصيل الصغيرة، التي قد يكون مرض الزهايمر قد مسحها من ذاكرتها، والذي جعلها يوما، تجد نفسها تائهة في طريق سيار بفرنسا !!
… كيف قطعت “مّي رقية” كيلومترات من بيتها إلى أن وصلت إلى الطريق السيار، وهي التي، كما يحكي ابنها بمرارة متأخرة، لم تبرح حي مدينتها الصغيرة “أڤيون” بشمال فرنسا، منذ أن وطأت قدماها فرنسا سنة 1977؟!
أكان اختيار بقائها مختبأة في شقتها، طريقتها للاحتجاج على إجبارها مغادرة بلدها ومدينتها وحيها درب السلطان… رغم توسلها لزوجها كي لا يقتلعها من جذورها فتتيه في بلد بعيد؟!
كيف لها أن تصل إلى الطريق السيار، وتتفادى كل هذه السيارات والشاحنات، وهي التي لا تستطيع عبور شارع حيها إلا بصعوبة؟!
أهو عقاب لنفسها من زوجها… ومن الظروف التي اقتلعتها من تربتها؟!
ألهذا اختارت، كما هو الشأن بالنسبة لمغربيات كثيرات عشن نفس الحكاية، أن تعيش وطنها المغرب، الذي حملت حبه في قلبها، فجعلت من شقتها الفرنسية التي أصبحت عالمها الواحد والوحيد، شقة فرنسية الحيطان ومغربية الديكور؟!
ألهذا جعلت صالون الشقة المثلث، يتأقلم رغما عنه، ليصير مغربيا، ومطبخ لا تعد فيه إلا الأطباق المغربية، تسافر عبر الطاجين وقصعة الكسس والمسمن.. إلى حضن أمها، حضن وطنها؟!
قاطعت “مّي رقية” القنوات الفرنسية…
ألأنها لا تفهم طلاسم هذه اللغة الغريبة عنها، والتي كان أبوها يناضل من أجل أن لا تستحوذ على لغتها الأمازيغية والعربية، التي تفهمها ولو بصعوبة، فهي لغة القرآن، كما كانت تقول لأبنائها، لكي تحفزهم على تعلمها؛ أم لأنها كذلك، لا تستسيغ ما تعرضه هذه القنوات من مواد لا يتقبلها حياؤها؟!
لم تتصالح مّي رقية مع التلفاز، كما حال الكثيرين من الجيل المهاجر الأول إلى فرنسا، إلا بعد أن ظهر الصحن اللاقط للقنوات العربية، هذا الصحن أصبح نافذتها ونافذة الجيل الأول من المهاجرين والمهاجرات على “عالمهم” العربي والإسلامي والمغربي بالخصوص. من خلال هذا الصحن، يطل عليهم مفتون في برامج دينية وممثلون عرب ومغاربة، ويتابعون نشرات الثامنة بوجوه مغربية .
أصبح هذا الصحن لمي رقية وغيرها، ملاذا للهروب من ملل الأيام التي تقضيها داخل شقتها بين الطبخ والكنس، ووسيلة سفر يومي إلى المغرب عبر قنواته التلفزية .
هل اتخذت مّي رقية من هذا الصحن الذي يوصل إلى حدود شقتها نسائم وطنها، الذي اجتثت منه قسرا، وسيلة لرفض الخروج إلى عالم لا تعرفه، وإن كان على بعد خطوة صغيرة من بيتها، رغم كل المجهود الذي قامت به المساعدة الاجتماعية الفرنسية معها، لحثها على الخروج والتواصل مع باقي النساء في المركز الاجتماعي للحي؟!
أكان عدم مبالاتها بهذه التحفيزات، مجرد رفض لكل ما يأتي من هذا العالم الغريب عنها ؟! أم هو خوف من التيهان فيه ؟
أم هو احتجاج على زوجها وأبنائها الذين لم يشعروا، كعدة أبناء وأزواج، بمسؤوليتهم نحو هذه العينة من النساء، فاخترن الانغلاق على أنفسهن طيلة الأربعين سنة التي قضينها بفرنسا؟
أمثال مّي رقية كثيرات، عشن مختفيات، محتميات داخل أسوار شققهن بأحياء هامشية بضواحي المدن الفرنسية الكبيرة كمارسيليا وليل وباريس وليون… أحياء همشتها سياسات فرنسا وعمقت انغلاق مي رقية وغيرها، أحياء كأنها أصيبت هي الأخرى بمرض الزهايمر، كما أصيبت به مي رقية، فمسحت من ذاكرتها شريط حياتها، ولم تبقَ إلا بعض المشاهد مما عاشته بحيها (درب السلطان) بالمغرب، فعمق هوة انغلاقها وانطوائها على نفسها وعلى عالمها الخاص .
…بعد التهجير القسري الأول لمي رقية، أوائل السبعينات، الذي شتت روحها هي وعدة نساء، زوجات وأمهات مغربيات، جاء مرض الزهايمر الذي ينخر ويفتت خلايا الذاكرة، لتمتطيه مي رقية سفينة رجوع، بل إرجاع، بل… تهجير ثان في القرن الواحد والعشرين، حيث أخذ أبناؤها قرار ترحيلها إلى المغرب، لأن ظروفهم الاجتماعية والمهنية… لا تسمح لهم برعايتها.
يا ترى… ألم يتأخر كثيرا، قرار رجوع مي رقية؟
قرار عاشت تتمناه منذ سنوات، لترجع لبلدها ومدينتها وحييها، قبل أن ترجع ملفوفة في صندوق مثواها الأخير؟؟!
هُجِرت مي رقية ورُحِلت دون أن تُسأل لا في التهجير الأول ولا الثاني، عاشت غريبة بديار المهجر… فهل تعيش كذلك بديار بلدها بمدينتها البيضاء وبحيها؟!!
أم أنها ستتوه يوما في شوارع مدينتها التي أصبحت غريبة عنها؟!
هل ستتذكر حيها الذي غيبتها عنه الهجرة ومرض الزهايمر. مرض هدم ذاكرتها أو ما تبقى من ذاكرتها، التي اغتصبت منها يوم هّجرت قسرا…؟
ترى… كم من مّي رقية لازلت تائهة بين ماضيها وحاضرها؟!
بين ماض اختطف منها، وحاضر تعيشه على أسِرة نسيان، نسيان نساء مغربيات نزعتهن الهجرة من حضن وطنهن، وحاضر انتظار الرجوع إلى الوطن… للأسف لقضاء ما بقي من العمر الأخير، بجسد نخرته الأمراض والتهجير، أو الرجوع في صندوق الرحيل الأخير، لكي تدفن في أرض الوطن وتدفن في قبر النسيان معها… معاناة جيل من النساء المغربيات لا يلتفت إليهن أحد…
نساء همشن في حياتهن وفي مماتهن!