عام كورونا
سيدون التاريخ في الذاكرة الجماعية عام “كورونا” مثل ما دون عام “الجوع”، عام “بوهيوف”، عام “ايرني”، عام سكارة”، عام “بوكليب”، عام “البون”، وغيرها من تراجيديا اليوميات المنسية من تاريخ الأزمات …
سيدون التاريخ في الذاكرة الجماعية عام “كورونا” مثل ما دون عام “الجوع”، عام “بوهيوف”، عام “ايرني”، عام سكارة”، عام “بوكليب”، عام “البون”، وغيرها من تراجيديا اليوميات المنسية من تاريخ الأزمات التي لمت بالمغرب…
هذا البلد الذي طالما وجد نفسه يكابد بؤس الطبيعة وصروف الأوبئة، وتعسف سطوة الجفاف وعناد السماء وقسوة الجوائح ، حيث كان الكل يرمق البقرات العجاف وهي تمحق أثر البقرات السمان على غنج منزلة “سعد الذابح” أو “سعد السعود” في آوخر فبراير وبداية مارس، بعمق البوادي المترامية الدواوير والمداشر، حيث لا مرافق سوى الأضرحة والمقابر وأدعية الاستسقاء وإرضاء “تاغنجا” والمعتقدات الخرافية التي خدرت العقل ردحا من الزمن وجعلت أجيالا ماضوية تعيش حياة الحلقة المفرغة… عيش من أجل العيش، وحرث الأرض بغاية الحرث وانتظار رحمة المزن كالمعتاد.
إن هيمنة الاقطاعيات الأرضية عبر التاريخ شيدت بنية اجتماعية متباينة بين “الشريف” و “الخماس” وفق علاقة مهادنة أشبه بقبول “أقنان” النظام الفيودالي بدونية سخرتهم أمام السينورات وبابوات الكنيسة.
عالم الاجتماع بول باسكون -أول الجغرافيين الحداثيين في المغرب- اعتبر أن البوادي إقطاعية مخزنية مؤطرة بالسلطة الروحية للزاويا وثروة الشرفاء وكدح البسطاء، راسما بذلك خطوطا ماركسية جدلية طبقية مغربية كامنة، لم تجد صدى الوعي اللازم من أجل تبني طموح التغيير، حيث استحال غرس البديل الإيديولوجي أمام جبروت أحادية نمطية ثقافة ممتاحة من عقلية المعتقد والثراث والمخزن.
للمقيم العام المارشال ليوطي مقولة “Au Maroc, gouverner, c’est pleuvoir”، بمعنى أن المطر مثبث لسياسة السلطة وقرص مهدأ لقلاقل المجتمع البدوي الشاسع.
ما كان يهم الجميع ومازال هو خبر التساقطات في النشرة الجوية، لأن الأمطار تعد أحد العوامل الرئيسية لاستقرار الانسان في المجال الريفي. كما أن انعدامها لمواسم متتالية كفيل بأن يؤدي إلى تريف المدن، بحتمية تنذر بفوضى سوسيو اقتصادية وانتشار القطاعات غير المهيكلة (نموذج “الفرّاشات” والعشوائيات)، والتي طالما عالجتها الدولة بسياسية العصا والجزرة: تشد عليها حبل المنع في مناسبات وتطلقه في مناسبات أخرى، دون مخططات واضحة لتقديم حلول بنيوية.
كل هذا جعل البسطاء يتعايشون مع هوس لقمة العيش بدل التفكير في أولويات أخرى، كما جعلهم على استعداد نفسي مسبق لدفع الرشاوى وبيع الأصوات والمشاركة في انتخابات بعقلية القطيع، حيث يتحول المرشحون إلى أعيان من جديد وتحشر مصالح الوطن في أهواء الأشخاص الذين يمثلون الشعب دون مراقبة أو محاسبة، وفق عبث ديمقراطي يسرق من العمر مدة خمس سنوات في كل استحقاقات انتخابية ويضيع فرص التغيير التي تضحى سراب.
ذكر تروتسكي في كتابه “الثورة الدائمة” أن الثورة يستحيل أن تأتي من الأرياف والمزارعين، لأن غايتهم القصوى انتظار المطر وحصد الغلة. في أسوأ حالاتهم، فإنهم يلقون بمشاكلهم على المدن حيث سيشكلون فئة جديدة تُستَغل من قبل الرهانات الحزبية النظامية وتعطل أي بناء فكري متحرر بطريقة مباشرة، بل تدخل في حرب مع النخبة المثقفة من أجل صيانة الوضع القائم ومباركته، وفي كثير من الأحيان، فهي تقتل التغيير.
لقد كانت أزمة كورونا صفعة مفاجئة وصدمة للدول التي توصف بالنامية، لأنها أحدثث رجة اجتماعية وهزة اقتصادية وارتباكا سياسيا، مما سيجعلنا نعيش دروسا قاسية على أمل استخلاص العبر من أجل استشراف مستقبل أفضل.
أحيانا، يحتاج القلب إلى صدمات كهربائية لمواصلة النبض بالحياة.