“التَّحَوُّلُ” عند المغاربة… درس كورونا
أكبر تطوع يمكن أن يخدم المجتمع، وقد نمر به نحو التحول الأكبر لهزيمته هو الأخر- بعد أن نكون قد اجتزنا مرحلتي الإدراك والتفكير- هو؛ التطوع الفردي.
… سنكون قد كرسنا ثقافة الحكمة في التعامل مع الفيروسات، ليست تلك المسببة للأوبئة فقط، وإنما فيروسات أخرى أكثر ضررا على الفرد والمجتمع… ثم المؤسسات برمتها.
تحًوُّلُ غريغور سامسا
” إذ استيقظ ‘غريغور سامسا’ ذات صباح، على إثر أحلام سادها الاضطراب، وجد أنه قد تحول، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة”… فكَّر: “ما الذي حدث لي؟”. لم يكن الأمر حلما” بالنسبة له.
بهذه الفقرة يبدأ “فرانتس كافكا” روايته “التحول”، تحول غريغور سامسا إلى حشرة، حشرة غريبة القوام والشكل، ليست لها القدرة على التحكم في قوائمها الكثيرة. لم يفهم غريغور بعد كيف تم ذلك، لكن هذا التحول الكلي بدنيًّا، لم يحول معه ملكة التفكير لديه، وعواطفه ووعيه… فكًّر، ثم تساءل، “ما الذي حدث لي؟ “.
تحول غريغور سامسا في الحقيقة لم يكن إلا مقدمة لتحول أكبر ستشهده العائلة، تحولٌ طرح عدة مشاكل في كيفية التعامل مع جسم غريب، على شكل كتلة كثيرة الأرجل، تحوُّلٌ سيؤدي إلى تغيير في السلوكيات الفردية داخل الأسرة على المستوى الداخلي، ثم على المستوى الخارجي، في علاقات العائلة البورجوازية الصغيرة، وكيفية تدبير حياتها اليومية.
التَّحَوُّلُ عند المغاربة
يعيش العالم اليوم، واقعا واحدا، مع اختلاف طرق عيشه، وكيفية عيشه وتباين مستوياته، إلاَّ أن ما عرفته كافة شعوب العالم وتيقنت منه، بعد أن أتيحت لها الفرصة مع هذا الوباء، أنها عرفت بعضها البعض في مواجهة واقع واحد، بتعبير الفيلسوف كارل ياسبرز. التحول الذي عرفه المغاربة، لم يعرف الحلقة التي نظمت وربطت عملية التحول عند غريغور، “حلقة التفكير”، ومن خلالها أدرك غريغور سامسا أنه يعيش حالة انتقال بدني شامل، ما هي إلا مرحلة انتقالية “للتحول الأكبر” الذي ينتظره عند عائلته. فَفيروس كورونا لم يكن إلا ذلك التحول الأصغر لدى المغاربة، عند اكتشافه، في أفق بلوغ التحول الأكبر، من خلال طرق التعامل معه، دون المرور من مرحلتي “التفكير والإدراك”.
التحول الأكبر يتمثل في كيفية التعامل مع الوباء على أساس أنه “وباء”، وليس إشاعة عابرة، هذا التحول يتطلب مستوى عال من الوعي، إلى جانب المسؤوليات التي يمكن أن تقدمها المؤسسات الرسمية لتوفير الرعاية الاجتماعية. فبعد فرض حالة الطوارئ الصحية من طرف مجموعة من الدول، يمكن آنذاك أن نتصور الخوف الذي أحس به نيتشه، عندما تخيل أنه من الممكن أن يظهر في المستقبل وحش رهيب يسخر التاريخ بأسره لخدمته، وتشويهه وتدميره وتزييفه… فالرعب الذي يمكن أن يحس به أفراد المجتمع، نابع من المجتمع نفسه، كون وحش كورونا الرهيب، سخر من يخدمه ويدمر ويشوه الكرة الأرضية، لقد اختار بعناية الفرد الذي يتصرف دون إدراك لخطورة الأمر، ولا تفكير كحلقة مهمة في التحول الأكبر، ذلك الفرد الذي يتغذى من الأنانية المفرطة كنزعة وبائية. أما الهجوم المتزايد على المحلات التجارية الذي رافق الإعلان عن تسجيل إصابات جديدة بفيروس كورونا، فقد ساهم في تكسير حلقة الربط بين التحول الأصغر والتحول الأكبر، وكشف عن أقصى درجة من الفردانية المطعمة بالأنانية، كعطب غير قابل للإصلاح داخل الفرد في ظل هذه الظروف.
إن التحول الذي عرفته رواية فرانتس كافكا، هو تحول العائلة، تحول داخلي، انتهى بالقضاء على غريغور سامسا الابن، كمسخ أصاب الأسرة؛ وأساء لها. فالنقطة المشتركة بين غريغور سامسا/ الحشرة، وفيروس كورونا، تتمثل في كونهما لا يهجمان، إذا صح التعبير، فمصير سامسا الابن المتحول، كان تضحية مشتركة بينه وبين العائلة، نهاية دون مواجهة، انتهت، وعبر مراحل، إلى نتيجة موت رحيم لغريغور، وبالخلاص المنتظر من كلا الطرفين. الخلاص من التحول الأصغر الذي أصبح عليه غريغور بدنيا، ثم الخلاص من التحول الأكبر الذي شهدته العائلة؛ فالعودة إلى الحياة الطبيعية من جديد.
إن التحلي بالوعي الفردي- في هذه المرحلة بالذات- قد يشكل أهم خطوات الهجوم الأولى على الفيروس، ومن تم العودة إلى الزاوية، في أفق تحقيق أمن ذاتي يقود إلى أمن جماعي.
تحدث الباحث والكاتب المغربي سعيد ناشيد منذ أيام قليلة عن ما أسماه بأربع رسائل من وحي كورونا، وسأركز على رسالته الأولى التي جاء فيها: “كورونا هي المرض الذي كشف أمراضنا.” كيف ذلك؟ يوضح ناشيد بالقول، من خلال: “التشفي في الحضارات القوية، الشماتة في المختلفين دينيا، تحويل الشعور بالعجز والفشل إلى كراهية للآخرين، تفاقم وسواس المؤامرة، الجهل المقدس بالأسباب العلمية، استفحال الفكر الخرافي، بروز الكهنة المتاجرين بمخاوف الناس وآلامهم”. يبدو أن الأمر أصبح ليس بالبساطة المتوقعة. لكن، هذه “الحالة الوبائية”، حالة القرن الواحد والعشرين، وما أبانت عنه من سلوكيات، هل يمكن أن تفرز وتشكل وعيا لدى الأفراد – ليس بالنتيجة المطلوبة ولا المتوقعة طبعا-، يظهر من خلال الواقع ويتجلى في مواقفنا تجاه هذا الوباء وغيره مستقبلا؛ إذا ما كرر التاريخ نفسه واستيقظ الوباء مجددا؟
وأخيرا، يبدو، أن أكبر تطوع يمكن أن يخدم المجتمع، وقد نمر به نحو التحول الأكبر لهزيمته هو الأخر- بعد أن نكون قد اجتزنا مرحلتي الإدراك والتفكير- هو؛ التطوع الفردي، سنكون قد كرسنا ثقافة الحكمة في التعامل مع الفيروسات، ليست تلك المسببة للأوبئة فقط، وإنما فيروسات أخرى أكثر ضررا على الفرد والمجتمع ثم المؤسسات برمتها، من قبيل فيروس الجهل، والأنانية المتوحشة، وتفشي الفردانية بين أعضاء المجتمع، والتي غالبا ما تضعفه عند مواجهة قضايا إنسانية مشتركة.