الركض في زمن الكورونا
شاءت الأقدار أن يتميز جيلنا في المغرب عن سابقيه بحظه الذي أبى أن يجعله يعيش أجواء المقاومة وقساوة الاستعمار، أبى أن يجعله يعاني من طامة الحروب ومآسيها، أو أن يحضر …
شاءت الأقدار أن يتميز جيلنا في المغرب عن سابقيه بحظه الذي أبى أن يجعله يعيش أجواء المقاومة وقساوة الاستعمار، أبى أن يجعله يعاني من طامة الحروب ومآسيها، أو أن يحضر الكوارث الطبيعية التي تعطل الحياة، أو أن يتجرع مر الأمراض الجائحة والوبائية، أو أن يتضور قسوة المجاعة وحرمان الجفاف.
وبالتالي، فنحن جيل لا يدري معنى عبارات حالة تأهب قصوى كانت أم دنيا، ولا يستوعب معنى حالة استنفار رسمي أو حالة طوارئ. نحن جيل لا يعي ما يمنعه أو يستلزمه حظر التجول ولا يستوعب دواعي الحجر الصحي.
لذلك، لا يجب المؤاخذة على هذا الجيل بسبب قصر فهمه أو لجهله التام لهذه العبارات التي لم يعرف لها استعمالا أو تداولا سالفا. لغاية أمس قريب، اعتبرت هذه المصطلحات دخيلة على المجتمع المغربي مادام لم يجد لها استعمالا من قبل.
ربما فقط النخبة المثقفة من هذا الجيل من تميزت بالسماع عن هذه العبارات من خلال النشرات الإخبارية الدولية، فربطت هذه الفئة المستثناة هذه المصطلحات بقاموس الحروب والكوارث والطامات الكبرى. ابتكر كل من في هذه الفئة في مخيلته مفهوما منفردا ومعنى خاصا به عن هذه العبارات الغريبة واستبعده مادام مجتمعنا لم يسده إلا السلام والسلم.
قبل ذلك، تبارى المغاربة في استنفاذ مخزون الكمامات ومحاليل تعقيم اليدين. لقد تهافت الكبير قبل الصغير نحو الأسواق خوفا من مجاعة محتملة أكثر من الوباء الداهية
شاءت نفس الأقدار وشاء نفس الحظ، بين عشية وضحاها، أن يطلب من هذا الجيل الإلتزام والتقيد بتعاليم رسمية كلها مستوحاة من هذا القاموس الغريب عن المجتمع المغربي.
في مدة وجيزة جدا، عاش المغرب حالة طوارئ واستنفار ثم تأهب ثم حظر جوي ثم خروج البراح بمكبر الصوت ثم حجر صحي ثم حظر تجول ثم إستعراض دبابات حربية تجول شوارع المدينة ثم فرض غرامات وعقوبات سجنية…
فكيف تعامل هذا الجيل مع هذا التطور السريع للأحداث؟ أية حرب هاته التي تستدعي أن نتجند لها بهذه السرعة ونتقيد بالتعاليم الرسمية لمواجهتها؟ أية كارثة هاته التي يرفض البلد الخنوع لها؟ أي عدو هذا الذي اقتحم أحصنتنا وداهم سلمنا وسلامنا المعهودين؟
إنها الكورونا. هي ليست دولة عظمى؛ لكن قوة قاهرة زعزعت حتى من ادعوا الجبروت وقلبت موازين القوى العالمية وسحبت البساط من تحت أقدام الأشداء. هي جائحة 2020 بامتياز. ضربت الدول المتقدمة أولا لتنزح لباقي دول المعمور مخلفة أعدادا هائلة من الضحايا والناجين من بطشها.
نحن جيل، حتى وإن جهل معنى العبارات الدالة عن الخطر الداهم، فهو يعي ويدرك معنى التذرع.
نحن جيل ليس أقل ذكاءً أو أكثر تقاعسا. نحن فقط دخلنا السباق قبل أن نحدد الوجهة الصائبة.
نحن جيل أعطى للمال والمناصب قيمة الذرع الواقي أمام الشدائد. تهافتنا وركضنا وتسابقنا إلى إدراكها إلى أن عشنا الزمن الذي أضحت فيه الأموال والمناصب ذرعا مستسلما أمام قوة وباء الكورونا و فيروسها الكوفيد 19.
صحيح أنه مجرد فيروس بحجم أقل من ميكروسكوبي، لكنه شقلب موازين الكرة الأرضية. قوته وهيبته تجلتا في ديمقراطيته. فلم يستثن أصحاب الجاه أو المناصب. الكل سلم نفسه لقدر هذه الطامة ووقف تذرعا أمام التعاليم العلمية وناشد العلماء للإسراع في إيجاد دواء لهذا الوباء.
الركض والجري أمام تحصيل الأموال والتسلق في هرم المناصب كبحهما القبوع داخل المنازل والانزواء أمام الشاشات واللوحات الإلكترونية. قاوم المغاربة أبناء جيلنا الجائحة بالاستمرار في التسابق والجري، ليس في إيجاد الدواء ولكن بركضهم داخل مسارات خاصة.
أية حرب هاته التي تستدعي أن نتجند لها بهذه السرعة ونتقيد بالتعاليم الرسمية لمواجهتها؟ أية كارثة هاته التي يرفض البلد الخنوع لها؟ أي عدو هذا الذي اقتحم أحصنتنا وداهم سلمنا وسلامنا المعهودين؟
لقد تألق المغاربة بجدارة وامتياز في مسابقة الإبداع في خلق النكت والدعابات ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، فكانوا أبطالا لتحدي فيروس الكوفيد19 بروح الدعابة والمرح. لكن، قبل ذلك، تبارى المغاربة في استنفاذ مخزون الكمامات ومحاليل تعقيم اليدين. لقد تهافت الكبير قبل الصغير نحو الأسواق خوفا من مجاعة محتملة أكثر من الوباء الداهية، و تباروا في الاستهلاك دون أدنى مراعاة، بينما اكتفى البؤساء بالبكاء والشجب لقصر اليد أمام موجة الهلع.
مافتئ التلاميذ والطلبة أن يفرحوا بتعطيل الدراسة في المدارس والجامعات، حتى أمرتهم السلطات بالقبوع داخل المنازل للتحصيل عن بعد. تسابق الأستاذة بكل مستوياتهم في خوض تجربة بيداغوجية جديدة بتحويل دورسهم الاعتيادية إلى دروس عن بعد. ثم تنافس “خبراء الشبكة العنكبوتية” في السبق الصحفي بنشر المستجدات الفعلية حول تطور الوباء و وسائل الوقاية منه وخلق الزائفة منها. حقق المغرب بذلك رقما قياسيا في الوصفات المانعة لتفشي الوباء.
و تعبيرا منا عن أننا مجتمع متضامن في كل الأزمات والنكبات، لم تكن مسابقة التبرع لصالح صندوق التضامن المخصص لجائحة كورونا أقل تنافسية. بكل إيثار وأريحية، افتتح المزاد من عشرة دراهم إلى الملايين منها، كل حسب استطاعته وما جادت به جبته. فتساءل المواطنون عن اختفاء المغنين ولاعبي كرة القدم عن حملة التبرعات مادامت مداخيلهم فارهة ومعفية من الرسومات الجبائية؛ ليتسارع بعض “الفنانين” بالمشاركة في الحملات التحسيسية للدعوة للمكوت في البيت بجميع اللهجات المحلية.
ثم أعطيت انطلاقة مسيرة الركض وراء عون السلطة من أجل الحصول على ترخيص الخروج الاستثنائي من البيت. إلا أن الترخيص لا يسمح بالخروج استثناءً من البيت للجري كما هو الحال بالنسبة لدول سبقتنا، كما لو أن السلطات كانت تدري مسبقا عشقنا للجري الذي مافتئنا اكتشفناه.
وفي خضم الجري والركض في كل الاتجاهات، انصاع الملتزمون بالتعاليم الرسمية وانتفض الجاهلون لتداعيات انتشار الفيروس، وتمرد العنيدون وانساق الأغبياء وهلل المتهورون ثم التحق الركب رويدا رويدا بكوكبة المتشبتين بقيم المواطنة.
ألم يئن الأوان أن نعي أننا نركض لكن ليس في الاتجاه الصائب؟
ألم يكن حريا بنا أن نركض خارج المدار المغلق؟
ألم نع بعد أننا نركض داخل مسار مغلق؟
أما كان جديرا بنا أن نركض خلف الأهم، مادمنا نحب الجري؟
نحن جيل ليس أقل ذكاءً أو أكثر تقاعسا… بل نحن جيل ينتمي لشعب متميز بقيمه الإنسانية المتجذرة.
نحن فقط دخلنا السباق قبل أن نحدد الوجهة الصائبة.