أحداث طنجة وفاس: تقريب كورونا من المواطن… باسم الدين
إنّ ما حدث نتاج لخيارات تبنت الخرافة الدينية، وشجّعت التفاهة، وغمطت في المقابل حق الميدانين التعليمي والصحي؛ مما أطلق العنان للأمية والجهل. كل هذا سهّل الإستحواذ على العقليات من لدن التيارات الرجعية، وخلق في مقابل ذلك، بسبب التفاهة، “جيلا من الضباع” الجوعى، والمتعطّشة لإشباع النّزوات المكبوتة.
على خلفية ما حدث في كل من طنجة، فاس، وسلا من خروج للحشود الصّادحة بالتَّكبير والتهليل في وجه وباء كورونا المستجد، تذكّرت فجأةً مقولة الممثل فرانك كلارك: “السبب في انتشار الجهل أنّ من يملكونه متحمِّسون جدا لنشره”.
هذا البادي فعلا في نبرات أصوات الخارجين دفعةً واحدة إلى الشارع في مسيرة حماسية ترفع القول بـ “اللّطيف والتّكبير” في توظيفٍ للدِّين أسوء توظيف. هؤلاء، بغض النظر عن كونهم محرّضون من قِبل جهات معيّنة أم لا، هم أولا وأخيراً نتاج خيارات “الدولة المخزنية” التي كتمت أنفاس الدولة الحديثة، وقامت على تجهيل الشعب حتّى أمسى الأخير يذبحُ نفسه بيده بسبب الخوف النّاشئ عن الجهل.
في حقيقة الأمر، تلك الجمهرة من العوام ليست سوى حصادا لما تمّ زرعه طيلة سنوات من التّفقير والتّهميش والتّجهيل؛ حتّى لم يعد من الممكن مخاطبة هؤلاء العوام بطريقة متحضرة نظرا لأنهم ليسوا على وعي تام بخطورة ما يواجهونه. لذلك، كان من السهولة التّلاعب بتلك العقليات المدجّنة بواسطة خطاب ديني مؤدلج يدغدغ الشعور الجمعي لشعب ربّما كفر بالدولة في لحظةٍ ما، ومات في نفسه كل شعور وطني جراء (الفقر، الجهل، والمرض).
هنا نكون أمام حالةٍ من الجهل الفاعل المؤدي إلى ارتكاب حماقات تؤذي الفرد، إضافة إلى الإستعداد في الوقت نفسه لإرتكاب القبائح ضد الآخرين
في الوقت الذي يفتقد شعبٌ ما أنماط الشعور (الإنتماء، الحرية، والكرامة) في وطنه، فإنّ هذا الأخير لا يعدو أن يكون لدى الفرد سوى حيّزا سياسيا جغرافيا اجتماعيا؛ دون أن يكون الوطن قائما على الأنماط الشعورية السالفة الذكر.
ما حدث بالأمس، إنما يمكن إيعازه بالدرجة الأولى إلى الإحساس الجمعي لتلك الأوساط الهشة اجتماعيا بـ “الخوف” من المستقبل القاتم؛ حيث إن هؤلاء يكدحون لأجل تحصيل بضع دريهمات لقوت اليوم. بهذا، فإنّ الإستجابة للخطاب الديني المسيّس ليس سوى تعبيرا عن خوف داخلي، وتنفيسا عن غضب ونفاد صبر في آن واحد.
لكن، أياًّ يكن الأمر، سواء تعلّق بتعبير عن شعور جمعي ما أو اصطفافاً خلف تيار معين، لا يهم بقدر ما يهم البحث في المسبِّبات الحقيقية التي أدت إلى التّصرف الأرعن غير المحسوب من لدن تلك الفئة من العوام التي لم تقدِّر خطورة ما قامت به، كأنّها تُقدم (بوعي أو غير وعي) على انتحار جماعي، بل وتجنح إلى قتل (الذّات الجماعية) التي تتحرّز من انتشار وباء يحصد الأرواح.
يبدو أنّ الجموع الخارجة إلى الأزقّة استعملت الدين استعمالا فجاًّ في محاولة للتماهي مع خطاب ديني مؤدلج؛ إذ أن المقاربة الدينية السليمة البعيدة عن الأدلجة والتّسييس تتلخص في الآية “ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة”، فمن مقاصد الشريعة، حفظ النّفس
هنا نكون أمام حالةٍ من الجهل الفاعل المؤدي إلى ارتكاب حماقات تؤذي الفرد، إضافة إلى الإستعداد في الوقت نفسه لإرتكاب القبائح ضد الآخرين. ومن هنا تلزم الإشارة إلى أن الجاهل مستعد لتقديم حياته بسبب جهله. وعليه، فإنّه لن يكون أشد حرصاً على أن يصون حياة الغير؛ وصدق غوته عند قوله: “ليس أفظع من جهلٍ فاعل”.
في حقيقة الأمر، لا أدري على وجه التدقيق أكانت تلك المسيرة المكونة من العوام مدفوعة من تيار بعينه أم لا. لكن، حتّى القول بهذا الطرح لهو مدعاةٌ إلى مراجعة الأوراق؛ إذ كيف لتيّار ما أن يتحكم في هذه القوة الجماهيرية المنفلتة من عقال العقل؟ ولإن تم تسويق الأمر بهذا الشّكل، فلربما سيضع تيار الإسلام السياسي المتكلَّم عنه في موضع قوّة؛ حيث قام باستثارة كل هاته الجموع في الآن نفسه في مقابل أن الدولة بذلت مجهودا في إقناع شرائح المجتمع بالمكوث في البيوت كإجراء وقائي للحد من انتشار فيروس كوفيد 19، وجيّشت لذلك كل الأدوات المتاحة سواء عن طريق الأجهزة الإدارية بما تمثله من سيادة، أو الأجهزة الأيديولوجية بما تمثل من رمزية؛ ومع ذلك، فكل هذا لم يُثن هذا التيار عن حشد الجموع للخروج في مسيرة مضادة لكل التعليمات والتوجيهات في تحدٍّ صارخ لكل تلك الأجهزة المذكورة سلفاً.
إنّ ما حدث نتاج لخيارات تبنت الخرافة الدينية، وشجّعت التفاهة، وغمطت في المقابل حق الميدانين التعليمي والصحي؛ مما أطلق العنان للأمية والجهل
إذن، فإن هذا الطّرح لهو من الخطورة بمكان، إذ يشكّل هذا التيار بما يحمل من سمات إسلاموية ترتكز على استراتيجيات خطاب الإسلام السياسي قوة خفية تعشش في مجتمع يُعاني الأمية والتخلُّف، وينساق مع أي دعوة ذات صبغة دينية مؤدلجة في غير ما مقدرة على التمييز بين الدين والخطاب الديني.
وتجدر الإشارة هنا إلى التمايز الحاصل بين الأول بوصفه تعبيرا عن مجموعة شرائع وعبادات مستمدة السلطة من “الشرع الإلهي”، وبين الثاني بوصفه تعبيرا عن خطاب استيلابي يسلب من المخاطب شخصيته، ويغرّر بالجماهير باسم الدين عن طريق الوعظ والإرشاد، ويتلاعب بالنصوص الشرعية بغية دغدغة المشاعر والسيطرة على الأدمغة. على هذا، فإنّ الخطاب الديني لا يعدو أن يكون خطاباً سياسوياً مصلحيا يسعى إلى تثبيت جذور الإسلام السياسي.
بهذا، يبدو أنّ الجموع الخارجة إلى الأزقّة استعملت الدين استعمالا فجاًّ في محاولة للتماهي مع خطاب ديني مؤدلج؛ إذ أن المقاربة الدينية السليمة البعيدة عن الأدلجة والتّسييس تتلخص في الآية “ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة”، فمن مقاصد الشريعة، حفظ النّفس. اليوم، في ظل هذه الجائحة، فالأولوية لهذا المقصد، وهو المُقدّم في إطار تطبيق قاعدة (درء المفسدة أولى من جلب المصلحة).
إنّ ما حدث نتاج لخيارات تبنت الخرافة الدينية، وشجّعت التفاهة، وغمطت في المقابل حق الميدانين التعليمي والصحي؛ مما أطلق العنان للأمية والجهل. كل هذا سهّل الإستحواذ على العقليات من لدن التيارات الرجعية، وخلق في مقابل ذلك، بسبب التفاهة، “جيلا من الضباع” الجوعى، والمتعطّشة لإشباع النّزوات المكبوتة.
من هذا المنطلق، فإنه من الضروري اليوم إعادة ترتيب الأولويات في المجتمع من طرف الدولة؛ إذ باتت مطالبةً بضرورة مراجعة العملية التعليمية لأجل إزالة كمية الجهل المتراكم في صورة حقائق جامدة.