غربة من قلب الوطن
أيها التائه بلا منفى.. بلا وطن..
لن يلومونك أو يعاتبونك إن اخترت الرحيل..
لعلّك تجد من يخفّف عنك الألم والمحن..
إلى صديقي أشرف في رحيله المبكّر.
إلى ملاك دعوت أن ترقد روحها الطاهرة في سلام بأمان في العلياء، في السماء الواسعة.
إلى صديق خانه القدر بعدما أضحى يدخّن سيجارة الغرام.
إلى جل شبابنا ممن وضعوا أحلامهم في وطن يتأوّه من جرحه.
…
وطني.. قد أنجب لنا من اعتنق حب الوطن ولم يجد فيه حتى أبسط شروط الحياة والعيش الكريم، شباب ذبلت نضارتهم كأوراق الشجر حين تتساقط، وقد ذبّ فيها اليُبس، كجفاف الشفة حين تذبل من شدّة العطش، ابتسامتهم أضحت شاحبة، هزلت حالتهم، جارت عليهم أيامهم السوداء وصاروا مثل المومياوات.. جثثا محنّطة.
التائهون بلا منفى وبلا وطن..
صعقتهم صاعقة الضيق والحاجة، جسدهم أضحى كقطعة قماش مبلّلة، كأن الله ابتلاهم بعلّة وهم يمتحنون في دنياهم، أجساد منهكة، محطّمة كالجسور المنهارة شرّ انهيار، يائسة من الوجود ولا أمل لها، قاطعة الرّجاء، نفوس بالضيق والشقاء مفعمة.
اشتدّت حاجتهم ورغباتهم فرفعوا الأكف.. عانقت أياديهم السماء متوسلة أن يكشف الله عنهم الغمّة، تستحضر الأدعية ابتهالا وتضرّعا.. تقربا واستشفاعا..
” فاللهم يا صارف كل بليّة أغثتنا وارحمنا، ندعوك دعاء من اشتدت به فاقته، وضعفت قوته، وقلّت حيلته “..
نفس منكمشة لم تطق صبرا ولم تتحمل أعباء الحياة الموجعة، على هذه الأرض وفوق أجنحة الوطن المنكسرة التي لا ترفرف، أكل قلبهم الضجر، إنهم التائهون بلا منفى وبلا وطن.
أما عن الكرامة.. فقد بلغت أقصى درجات الحضيض، تظل مطالبهم حبرا على ورق لتضيع بين مئات الملفات، زهرة شبابهم تذبل وتنكمش، أحلامهم وجذوة آمالهم في النفوس تنطفئ وتنكفئ على ذاتها وأوجاعها، اتّسعت الفجوة بين الأحلام والواقع، بين الخيال والحقيقة، وتضاءلت الآمال كتضاؤل فرص العمل.
وطن حمل هموم أبنائه، قلوب تتوجع لمآسيها وتتفجّع، حزن يسود وكآبة بمكانهم تتربّع، آمالهم ذابلة سقيمة كفصل الخريف حينما ينثر أوراقه اليابسة الصفراء، نكبات الدّهر أصابتهم، نوائب الزمان وصروفه، شدائده الموجعة كوجع الألم، كوخز إبرة حين توجعك بشكّتها.
أيها التائه بلا منفى.. بلا وطن..
لن يلومونك أو يعاتبونك إن اخترت الرحيل..
لعلّك تجد من يخفّف عنك الألم والمحن..
أيها التائه بلا منفى وبلا وطن.. يا من تحمّلت المآسي وأنت ما زلت في أول العمر، في عزّه وفي فترة زاهية من الحياة، كنار أحرقت الربيع في ريعان نموّه، كما يقول الشاعر أحمد شوقي.. “بأنواره وطيّب زمانه”.