من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: وسام “سُحلفائي” للمنجرة… المهدي الذي لم نهتدِ به
متى كانت آخر مرة تمردت فيها؟
لا تهلع(ي)، ولا تجزع(ي)… أنا لا أقصد التمرد السياسي، ليس خوفا عليك طبعا من البطش، بل خوفا على نفسي من تهمة التحريض. كما أنني لا أقصد التمرد الشكلي، الذي يجعلك تربي شعرك وحشرات شعرك.
أنا أتحدث عن التمرد كمبدأ، كطريقة في الحياة.
إذا كنت تعلم أن المفكر المهدي المنجرة كان ولا يزال من أهم المراجع الدولية في القضايا السياسية والاجتماعية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية، فاعلم أنك من الكثيرين.
وإذا كنت تعلم أنه كان وراء تأسيس الجوق الوطني المغربي، حين كان مديرا للإذاعة والتلفزة، فاعلم أنك من القلائل.
أما إذا كنت مغربيا ولا تعلم من هو الدكتور المهدي المنجرة، فلا أنت من الكثيرين ولا من القلائل… وحلال فيك قصائد هجاء العصر “الجاهلي”.
لكنني سأتغاضى بكل شهامة عن جهلك لهذه الشخصية الوطنية النادرة، وأحيلك فورا على قناة الجزيرة الوثائقية، التي بثت شريطا وثائقيا بعنوان “المنذر بآلام العالم”، في إشارة إلى الاسم الذي كان يعرف به المنجرة لدى الصحف العالمية.
وفي حالة إذا لم تجد هذا العنوان مغريا لك، فدعني استفز فضولك، المشكوك فيه، وأخبرك بأنك ستجد في هذا الشريط الوثائقي، الجواب عن سبب رفض الدكتور المنجرة بثَّ خطاب الملك الراحل محمد الخامس مباشرة على أمواج الإذاعة والتلفزة المغربية، حين كان مديرا عاما لها.
فأسرع الخطى إذن إلى اليوتيوب، قبل الحذف.
الآن وقد تخلصنا من المتسائلين عمّن يكون الدكتور المنجرة، دعنا نمر سريعا إلى أولئك الفضوليين الذين يتساءلون عن سبب كتابة هذه السطور، ولماذا الكلام عن مولاي* المهدي في هذا التوقيت بالذات، رغم أنه لا يصادف لا ذكرى وفاته، ولا ذكرى ميلاده، ولا يتربع اسمه على عرش “الطوندونس” المغربي لا سامح الله.
الجواب المفرح المبكي عن هذا السؤال، ستجده في الحلقة 27 من السلسلة الفكاهية “سوحليفة”، وبالضبط في الدقيقة الثانية وخمس وخمسين ثانية، حين عرض “طونطو” المدني على زوجته (حياة) أن يحملها إلى غرفتها فوق ذراعيه، خوفا عليها من إرهاق الحمل، فلم تفوِّت الصغيرة إسراء الفرصة، وقالت له “طانِزة”: “تهزّهااا!! غادي تولد لينا المهدي المنجرة!!!”.
مدير المدرسة أبى أن يشهر الراية البيضاء وطالب، في شكل عتاب مقنَّع، الدكتور المنجرة بإعطاء بريق أمل للشباب الحاضر. عتاب استفز المهدي، فجحظت عيناه، واهتز من على كرسيه، ليصرخ بحرقة صادقة: “الأمل هو يْحاربنااا!! منِّي أنا وجبد!!”.
لا أحد يستطيع أن يدّعي أنها جملة مألوفة، فقد كان بإمكان إسراء مكايدة حياة، عن طريق تذكير المدني بأن زوجته لن تأتي لنا بمولود يصنع الصواريخ، أو يصنع النووي، أو”البّومادا” أو طرابيش النمل، كما يقال.
لكن إسراء فاجأتنا جميعا، وتمردت على كل تلك التعابير المألوفة، لتأتي بالجديد، وتستشهد باسم المهدي المنجرة، كرمز لأعلى مستويات العلم، التي من الصعب جدا على أي إنسان إدراكها، وخصوصا إذا كان ابن زوجة “طونطوها” المدني.
فلتسجل إذن يا تاريخ، أننا صرنا نحتفي بصاحب كتاب “انتفاضات في زمن الذّلقراطية”، على قناة عمومية مغربية وليست أجنبية. وصار فكر مولاي* المهدي المنجرة، يُقدَّم للمغاربة على أنه أقصى درجات العلم، بل وتم تفضيله حتى على علم صناعة الصواريخ.
هذه الحقيقة التي خرجت من فم الطفلة إسراء، ذكرتني بلقائي بهذه الشخصية الإنسانية بامتياز. لكنني سأؤجل الحديث عن هذا اللقاء لأتكلم عن حكاية أهم، جرت خلال محاضرة ألقاها المهدي في المدرسة الوطنية العليا للمعلوماتية وتحليل النظم في أواخر سنة 2006.
متى تمردت على ما فرضه المجتمع عليك؟ على أن تعيش الحياة المطلوب إثباتها بالتفصيل، كما جاء في المقرر؟ متى كانت آخر مرة أخضعت فيها للنقد والتمحيص ما تلقّنته من المدرس، من الأسرة، من الشيوخ، من السياسيين، وحتى من العلماء؟
كان المفكر المهدي يركز طيلة هذه المحاضرة على تشريح حقيقة الوضع في المغرب (بالأرقام والدراسات طبعا)، واستسلم كعادته إلى قناعته الراسخة بضرورة الاصطدام بهذه الحقيقة، باعتبارها الحقيقة المنطقية التي يجب المجاهرة بها مهما كلف الأمر، وإلا فلا حديث عن أي إصلاح.
كان من أهم لحظات هذه المحاضرة، على الأقل بالنسبة لي، الحوار غير المتوقع، الذي دار بين الدكتور المنجرة ومدير المدرسة آنذاك، حيث بدا للجميع الاختلاف الواضح بين وجهتي النظر… إلّا أن تصفيقات الحاضرين انتصرت للدكتور المنجرة ورجحت حججه.
لكن مدير المدرسة أبى أن يشهر الراية البيضاء وطالب، في شكل عتاب مقنَّع، الدكتور المنجرة بإعطاء بريق أمل للشباب الحاضر. عتاب استفز المهدي، فجحظت عيناه، واهتز من على كرسيه، ليصرخ بحرقة صادقة: “الأمل هو يْحاربنااا!! منِّي أنا وجبد!!”.
جملة لن أنساها أبدا؛ فقد كانت دعوة صريحة من هذا المفكر المتفرّد للشباب إلى التمرد على الوجوه القديمة، بمن فيهم هو شخصيا، والتمرد على أفكارهم… لم يستثنِ أفكاره، بالرغم من كونها مرجعا عالميا.
متى جربت ولو مرة واحدة، ماركة جديدة من السلوكيات والتفكير (على سبيل التجربة ليس إلا)؟
باختصار، متى كانت آخر مرة قررت فيها أن تعيش كما خلقك الله، حرا في جسدك، في أفكارك واختياراتك؟
فالأمل في قاموس مولاي* المهدي المنجرة، يبدأ بتكسير “الأصنام”.
عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، أرى من واجبي الآن أن أخبرك بأنه، إذا كنت من أنصار “كل بدعة ضلالة”، فالمقال ينتهي بالنسبة إليك هنا. شكرا جزيلا على وقتك الثمين، وإلى مقال آخر…
أما في حالة إذا ما كنت من المناصرين لوصية مولاي المهدي المنجرة، فاسمح لي أن أطرح عليك سؤالا مباشرا، أتمنى أن تستحضر(ي) ضميرك للإجابة عليه: متى كانت آخر مرة تمردت فيها؟
لا تهلع(ي)، ولا تجزع(ي)… أنا لا أقصد التمرد السياسي، ليس خوفا عليك طبعا من البطش، بل خوفا على نفسي من تهمة التحريض. كما أنني لا أقصد التمرد الشكلي، الذي يجعلك تربي شعرك وحشرات شعرك. أنا أتحدث عن التمرد كمبدأ، كطريقة في الحياة.
دعني أرفع عنك الحرج مؤقتا، وأزيل عني عباءة المفتش “كولومبو”، لأجيب أنا أولا على هذا السؤال.
بكل ضمير وشفافية، أقر وأعترف، أن آخر مرة تمردت فيها، كانت على المشروبات الغازية، لأنني سمعت والله أعلم، أنها تسبب انتفاخ البطن والأرداف.
الآن، حان دورك، ولا تتسرع في الإجابة… متى تمردت على ما فرضه المجتمع عليك؟ على أن تعيش الحياة المطلوب إثباتها بالتفصيل، كما جاء في المقرر؟ متى كانت آخر مرة أخضعت فيها للنقد والتمحيص ما تلقّنته من المدرس، من الأسرة، من الشيوخ، من السياسيين، وحتى من العلماء؟
متى جربت ولو مرة واحدة، ماركة جديدة من السلوكيات والتفكير (على سبيل التجربة ليس إلا)؟
باختصار، متى كانت آخر مرة قررت فيها أن تعيش كما خلقك الله، حرا في جسدك، في أفكارك واختياراتك؟
اعلم أنني سأكون في منتهى السعادة والرضى، وسأنام قرير العين، لو جعلتك تسهر هذه الليلة، تفكر في العمر الذي ضاع منك وأنت تديم الطأطأة للعرف والتقليد.
لا تظلمني ولا تلمني، فغرضي مصلحتك… لعلك تقلق يوما، فتشك وتبحث، وتبدع لنا ما لم يبدع فيه أحد من قبلك. وتُخرج لنا إلى الوجود، ماركة جديدة من الأفكار، مسجلة باسمك وحقوقها محفوظة.
ومن يدري، فقد تنال شرف التكريم في الموسم القادم من سلسلة “سوحليفة” الرمضانية. لن تنتظر كثيرا، عام “مادَّا ما جاب”. على الأقل ستكون أوفر حظا بكثير من مولاي* المهدي المنجرة، الذي انتظر أكثر من نصف قرن في حياته، وأكثر من ست سنوات بعد مماته، من أجل أن يوشَّح بوسام “سُحلفائي “، من إمضاء المتمردة إسراء.
هام جدا: كلمة مولاي في هذا المقال، لا أقصد بها انتساب الدكتور المهدي المنجرة إلى شجرة آل البيت، بل أقصد بها انتسابه إلى شرفاء آل العلم. (ماركة مسجلة).