كي لا تقتلنا الحقيقة، كي لا يقتلنا كورونا
يقول المفكر الألماني نيتشه: لولا الفن لقتلتنا الحقيقة”.
إن ما استمريتم في اللعب على عواطف وسذاجة الناس، ستقتلنا كورونا.
في أبسط تعاريف “السلفية” في عموميتها، نجد أنها اتجاه رجعي يلجأ إليه الأشخاص الذين لا يستطيعون استيعاب العالم بتطوراته و تغيراته ويجدون في الماضي، في السلف، ملجأهم الوحيد ليخفوا فشلهم في إيجاد حل لأسئلتهم الوجودية ومسائلها المتشابكة المعاصرة.
مع ظهور فيروس كورونا بالمغرب، استغلت هاته الفئة التي وجدت أتباعا قاصرين ذهنيا وسنا حتى، لينهالوا بالسيف على الفن بدعوى: “ما دور الفن الآن؟ وأي خدمة يمكن أن يقدمها للمغاربة و للبشرية؟.
بالمقابل، أرجعوا سبب الإبتلاء إلى ابتعاد الناس عن الله، و أن دعوة “ترامب” إلى التضرع للرب أبلغ من دعوة بعض الفنانين إلى ترديد النشيد الوطني معا.
يعلم الجميع أن للمدرسة والسياسة التعليمية مع الأسف دورا في هذا الأمر، بدءً من قصة “النملة والصرار” التي تمجد في خباياها المخفية لمجتمع العبودية، مجتمع النمل، في مقابل مجتمع الحرية والحياة، مجتمع الصرار
في كل مرة يتخبط فيها المغرب في مشكل كيفما كان، يعود هذا السؤال ويطفو إلى السطح وتبدأ هاته الفئة في سخريتها من الفنانين والفن عموما والتحريض على كراهية الفن.
أريدكم أن تقدموا لي تعريفا ساذجا عن الفن إن استطعتم إليه سبيلا. أتعرفون ما هو الفن؟ ما هي الموسيقى؟
الأكثر سذاجة هو تقديسهم للعلم وللطب في هذه المرحلة، في تضارب صارخ مع التيار الذي يتبنونه أصلا، فسيدهم “ابن تيمية” كفر الفيزياء والطب والرياضيات وجعل من كل العلوم غير الدينية منكرا وجب النهي عنه.
يعلم الجميع أن للمدرسة والسياسة التعليمية مع الأسف دورا في هذا الأمر، بدءً من قصة “النملة والصرار” التي تمجد في خباياها المخفية لمجتمع العبودية، مجتمع النمل، في مقابل مجتمع الحرية والحياة، مجتمع الصرار. منظومة تربوية تعلي من شأن الحقول العلمية على حساب الأداب والعلوم الإنسانية.
أتذكر أنني حين كنت أدرس بالثانوي، كان أصدقائي العلميين يسخرون من اختياري للآداب والعلوم الإنسانية، على أساس أنها “ما كتوكلش الخبز” وأن البلاد في حاجة إلى العلميين والمخترعين والصناع أكثر من حاجتها للشعراء والكتاب والموسيقيين.
كان في حاشية السلطان (بعض “العلماء”) ممن أشار عليه بعدم إغلاق الحدود لأنه يخالف شرع الله، إذ لا يجوز مقاطعة الجار المسلم وإغلاق الحدود في وجهه. هذه المشورة تسببت في مقتل مئات الآلاف بالمغرب حينذاك
اجتمعت كل الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية حتى تطفو مأساة تكررت عبر عصور جمة في تاريخ المغرب الوسيط والمعاصر؛ فقد كان رفض السلطان “المولى سليمان” إغلاق الحدود مع الجارة الجزائر هو السبب الأول في الكارثة التي حلت بالمغرب في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.
لكن، أتعرفون ما السبب، لأنه كان في حاشية السلطان (بعض “العلماء”) ممن أشاروا عليه بعدم إغلاق الحدود لأنه يخالف شرع الله، إذ لا يجوز مقاطعة الجار المسلم وإغلاق الحدود في وجهه. هذه المشورة تسببت في مقتل مئات الآلاف بالمغرب حينذاك. ولأن الوباء لا يستثني المؤمنين، فقد مات كل هؤلاء “العلماء” الذين أفتوا بعدم إغلاق الحدود بسبب تفشي “لمرض لكحل”.
في القرون الوسطى، إبان حكم الموحدين أو السعديين، ما الذي تسبب في كل تلك الكوارث التي حلت بالمغاربة؟ أليست الأفكار الرجعية والأسطورية التي أذاعها المتشددون وأطاعها عموم الشعب مع الأسف؟ ألم يبع تجار الدين الطلاسيم والأحجبة للتصدي للأوبئة والأمراض الفتاكة التي عرفها المغرب؟ -للأمانة، فقد حاول ابن خلدون ومجموعة من المفكرين المتنورين أنذاك مواجهةَ هاته الغزعبلات، لكن بدون جدوى-.
نفس الأسطوانة “المشروخة” كما يقول المصريون تتكرر مرة أخرى.
إن الهاتف أو الحاسوب الذي تقرأ فيه هذه المقالة هو ضرب من الفن وليس علما فقط. إن كل ما يحيط بك فن. الجدران، الأريكة المريحة، أدوات المطبخ. ما يلمس جلدك من لباس وصابون. كل ما يحيط بك فن وليس لك أي وسيلة للنجاة والبقاء غير الفن! إنك حتى لن تستطيع تقشير برتقالة بدون فن.
إن العلم كالفن، يولدان من رحم الخيال ويكمل كل منهما الآخر؛ فلا فن بدون علم ولا علم بدون فن.
السيارة التي تتنقل بها أصلها خيال، والمستشفى خيال… كل ما وصلنا إليه من تقدم وتكنولوجيا هو نتاج الخيال، شأنه شأن الفن الذي لا يأتي إلا من الخيال.
إن للصرار يا سادة دورا تطهيريا مهما في الطبيعة، فهو يقتات على الأعشاب الضارة والأغصان والأوراق الطفيلية وجثث الحشرات الميتة. الصرار يقوم ب”الكاتارسيس” الذي تحدث عنه أرسطو في كتابه : ”فن الشعر” وحدده كغاية للتراجيديا (أي الفن)، من حيث تأثيرها الطبي والتربوي على الفرد المواطن. الصرار إذن أرقى من أن تسخر منه النملة.
وأختم كلامي بمقولة المفكر الألماني “نيتشه”: لولا الفن لقتلتنا الحقيقة”. إن ما استمريتم في اللعب على عواطف وسذاجة الناس، ستقتلنا كورونا.