عبد الدين حمروش يكتب: الدولة المدنية والدولة الديمقراطية
في ظل انشراع فاتورة الدم، وفي ظل التوجس من حكم الإسلاميين، تكون عقارب الساعة العربية، باتجاه الدولة الديمقراطية، قد توقفت إلى حين لا ندري متى نهايته…
هذا وجه بارز من محنة الديمقراطية، اليوم، في عالمنا المسمى عربيا.
شهدت بلدان عربية حراكات شعبية عدة، تطورت في بعضها إلى انتفاضات مسلحة. وفي لحظات حاسمة، كان شعار “الدولة المدنية” يحظى بالتردد على أكثر من لسان، سواء في الشوارع، والميادين أم في اللقاءات التلفزية، ووسائل التواصل الاجتماعية. وحتى وقت قريب، شاهدنا كيف ظل السودانيون يهتفون: مدنية، مدنية.
لم يكن الشعار المذكور ترفا فكريا، مادام الواقع، في معظم الدول العربية الكبيرة والمؤثرة، يميل إلى سيطرة قوة العسكر، بشكل ضمني أو صارخ: مصر، السودان، سوريا، الجزائر. من المؤكد أن الدولة المدنية، في السياق الحالي، تجسد تطلعات الشعوب المنتفضة، من أجل وضع حد للدولة العسكرية، التي فشلت على أكثر من صعيد، اقتصادي واجتماعي وأمني.
إذا كانت “المدنية” تختزل تطلعات شعبية، لوضع حد لحكم العسكر بالدرجة الأولى، إلا أنها ظلت تُعبِّر، في الآن ذاته، عن الحق في المواطنة الكاملة لجميع الأفراد، أيا كانت دياناتهم، مذاهبهم، طوائفهم وقومياتهم.
وإن كان الشعار/ العنوان مدنيا، يتمّ رفعه في وجه الطغمة العسكرتارية، إلا أن هذه الأخيرة ظلت تُمكِّن لهيمنتها على الدولة، من خلال التحالف مع قوى أخرى: دينية/ سلفية كما هو الحال في مصر السيسي، أو دينية/ إخوانية كما كان في سودان عمر البشير. وإذ تسترجع العسكرتارية المصرية المبادرة، بعد الإطاحة بحكم “الإخوان”، يحاول بلد آخر وهو ليبيا العودة إلى ماضيه القريب، عبر سعي المشير خليفة حفتر إلى استعادة سيرة حكم العقيد القذافي. أما في الجزائر، وإن ضاعت المبادرة من بين يدي جبهة التحرير، إلا أن حليفها العسكر مازال يناور في تسليم السلطة إلى اليوم.
إقرأ أيضا: سارة أحمد فؤاد تكتب: إنهن يقدن أخيراً… لكن، ماذا عن لجين، إيمان وعزيزة؟
من الثابت أن شعار الدولة المدنية، ظل يُرفع لوضع الحدّ الفارق مع الدولة العسكرية أساسا. الدولة الدينية، من منطلق سلفي أو إخواني، لم يُكتب لها التمكين، إلا بصفة مؤقتة أو متماهية مع دولة العسكر. أما الإحالة إلى مثال العراق، فالوضع يختلف كثيرا، على الرغم من هيمنة الأحزاب الدينية، وفي طليعتها حزب الدعوة.
إذا كانت “المدنية” تختزل تطلعات شعبية، لوضع حد لحكم العسكر بالدرجة الأولى، إلا أنها ظلت تُعبِّر، في الآن ذاته، عن الحق في المواطنة الكاملة لجميع الأفراد، أيا كانت دياناتهم، مذاهبهم، طوائفهم وقومياتهم. وفي هذا الإطار، يمكن ملاحظة الدور الفاعل للأقليات، سواء من خلال أحزابها وجمعياتها أم من خلال دول راعية بعينها من المنتظم الدولي. ولا يخفى على أحد الدور، الذي لعبه غير قليل من أقباط مصر، في عودة الجيش إلى سابق عهده، بعد فترة قصيرة من الغموض والارتباك. في بلدان شرق أوسطية، تتميز بتعدد فسيفسائها القومية والطائفية، تبدو “المدنية” الحل الواقعي الملموس في السياق العربي.
من المؤكد أن الدولة المدنية، في السياق الحالي، تجسد تطلعات الشعوب المنتفضة، من أجل وضع حد للدولة العسكرية، التي فشلت على أكثر من صعيد، اقتصادي واجتماعي وأمني.
غير أن المدنية، في حالات أخرى، سرعان ما كانت تؤول إلى مجرد رزنامة محددة، ومرتبة من الحريات الفردية. وإذ يرتفع التوجس من حكم الإسلام السياسي، على خلفية الخشية من مُعاكسة الحريات الفردية، فإن العودة إلى الدولة العسكرية (أو المخزنية في حالة المغرب) تبدو خيارا مطلوبا بالنسبة لفئة واسعة من المواطنين. في حالة الثورة السورية، حيث دخلت جماعات إسلامية حلبة العنف المتطرف، بات الانحياز إلى “الأسد” الخيار الأسلم (ولو على مضض).
إقرأ أيضا: عبد الإله أبعصيص يكتب: إجهاض وطن… لنهاجر من أجل قبلة.
هكذا، في لحظة ما، بدا العسكر ضامنا للحريات الفردية وراعيها. التناقضات الناشئة، في مناخ من العنف الدموي المفتوح، جعلت الاختيار بين من هم الأفضل واقعيا: العسكر أم الإسلاميون. حتى التطلع إلى الديمقراطية، عبر إجراء انتخابات حرة نزيهة، أخذ يتخلف بعيدا “وراء”، ومن قوى محسوبة على اليساريين والعلمانيين، ومناكفة لحكم العسكر. في خلفية الرأي، الحريات الفردية أهم من الاستحقاقات الديمقراطية، إن كانت ستأتي بالإسلاميين (الانغلاقيين/ الظلاميين).
في ظل انشراع فاتورة الدم، وفي ظل التوجس من حكم الإسلاميين، تكون عقارب الساعة العربية، باتجاه الدولة الديمقراطية، قد توقفت إلى حين لا ندري متى نهايته. هذا وجه بارز من محنة الديمقراطية، اليوم، في عالمنا المسمى عربيا.
بعد أن كانتا قريبتين، أضحت الدولة المدنية تبتعد عن الدولة الديمقراطية شيئا فشيئا.