#ألف_حكاية_وحكاية: مختطفة تنجداد 2\1
كنا لا نزال نعيش في تنجداد، جنوب شرق المغرب. كان الجو خريفا وكانت ريح الشاموم قوية. ريح تهب من جهة الصحراء وتقتلعنا اقتلاعا. تقع تنجداد غير بعيد عن الصحراء الكبرى. …
كنا لا نزال نعيش في تنجداد، جنوب شرق المغرب. كان الجو خريفا وكانت ريح الشاموم قوية. ريح تهب من جهة الصحراء وتقتلعنا اقتلاعا.
تقع تنجداد غير بعيد عن الصحراء الكبرى. تحميها من زحف الرمال جبال الأطلس الصغير والقصبات الطينية.
كنا في مهب الريح طيلة الصيف والخريف: رمال حارقة تغطي وجوهنا وتسد أنوفنا الصغيرة. كنا نسمع عن زحف الرمال جهة أراضي البور في أشتام ومناطق أخرى. كان وجودنا هشا ويتوقف على أهواء الريح والرمال. سيأتي يوم نختفي فيه خلف الكثبان الرملية.
كان تخيل منظر بيتنا تحت الرمل يصيبني بالهلع، كأنه مرآى يوم الحشر. أن تموت اختناقا تحت الرمل؟ موت فظيع. لماذا لا يوجد في جهنم عقاب بالرمل؟
كنا صغيرات، لكننا كنا أمهات قبل الأوان. نحمل إخوتنا الصغار على ظهورنا. كانت مهمة متعبة، فأخي السمين يعضني دائما على ظهري وأخ فطيمة يبزق على شعرها. لم تكن بيدنا حيلة، فقد كان علينا أن نساعد أمهاتنا المقتولات في الواجبات المنزلية. ثم أن هذا قدر البنات في الواحة: سنتعلم أصول الإعتناء بالبيوت وبالأطفال لأن ذلك هو ما ينتظرنا في المستقبل.
اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: إفطار رمضاني
كانت البنات يزوجن لأول خاطب ويمضين في قدرهن المتعب. لم نكن نحلم بشيء آخر، لأن الأحلام لم تكن ممكنة. أمهاتنا البدويات يغلقن علينا شرفة الأحلام ويصورن لنا الحياة بالنسبة للنساء، ككأس مرارة يتشربن منها كل يوم في انتظار الموت.
كانت الأمهات تطوعن أجسادنا الصغيرة لنصلح لخدمة أزواجنا وحمواتنا في المستقبل. لم نعرف اللعب كما الأطفال في كل بقاع العالم. دخلنا عالم الكبار مبكرا وأثقلت كواهلنا بمهام لا تنتهي وبمشاكل الأمهات التي كنا نفكر فيها طيلة الوقت وتحول بيننا وبين الإستمتاع بالحياة.
صارت الحركة الزائدة دليل حياتي. كنت أبالغ في الحركة لأقول: “أنا حية”. وكانت أمي تستفيد من تلك الحركية الزائدة بتكبيدي أشغالا منزلية لا تنتهي.
كان ذلك ذات يوم من خريف 1977. كانت البيادر ممتلئة بالثمر الذي جنيناه، وكانت لا تزال هناك خطوات عديدة من حمل الثمر إلى المنازل وتخزينه. كنا في محنة، إذ لم يكن لنا حمار أو بغل ولا رجال في البيت. كانت أمي وحيدة بعد أن سافر أبي إلى الدراسة في العاصمة ومنعت جدتي أبناءها عن مساعدتنا. كان ذلك في إطار خطة طويلة الأمد من الإيذاء المجاني لزوجة إبنها، الذي ينفق عليها هي وأبنائها وزوجها.
لسبب غريب، كانت جدتي تكن حقدا دفينا لأمي ولي أنا بالذات. كانت تسميني “اليهودية”، بسبب إسمي القريب من إسم “حنا”، اليهودية التي عاشت في قصر آيت عاصم ذات زمن.
الحق أن دمي كان يغلي حين أراها تسب أمي وتسيء إليها، فأنهض وأحمل الحجر وأسب جدتي وأهددها به.
اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: الشيخ “لـ” والحريم: دعارة حلال؟
كنت طفلة لا تعرف التواصل إلا عبر لغة الحجارة. كنت طفلة حجارة وكل مشاكلي كنت أحلها بالحجر المتوفر في تنجداد. أقذف بالحجارة باتجاه كل من يعترض سبيلي. سأظل على علاقة وطيدة بالحجارة حتى سن متأخرة؛ فقد عالجت مشكلتي مع صديق خلال فترة الدراسة الثانوية باستعمال الحجر.
كان ذلك نوعا من الجنون الذي يحرج أمي. الحق أنني كنت خارجة من نوم طال خمس سنوات، إذ أنني في الخمس سنوات الأولى من عمري، بقيت مستلقية على ظهري أغلب الأحيان؛ وكان الكبار يأتون إلي. يزيلون الأغطية الخشنة ويقولون: “لا زالت هاته البنت حية”. كنت أعرف أنني سأموت لا محالة. في القرية، يموت الأطفال بالجملة خلال فصل الصيف بسبب أمراض كثيرة كانت تفتك بواحة يغيب عنها التطبيب.
حين أفقت من نوم الخمس سنوات، دبت حياة غريبة متوثبة في كل أعضائي، فصرت أتحرك طيلة الوقت. أساعد في البيت وأحمل الثمر إلى السطح وأحمل أخي على ظهري وأعدو إلى ساقية الفيض لأبلل قدمي الصغيرتين. صارت الحركة الزائدة دليل حياتي. كنت أبالغ في الحركة لأقول: “أنا حية”. وكانت أمي تستفيد من تلك الحركية الزائدة بتكبيدي أشغالا منزلية لا تنتهي.
كنا، فطيمة وأنا، نحمل إخوتنا على ظهورنا ونلعب بالمساتيك. نخبئها في الرمل ونبحث عنها، فتكون الرابحة هي من تعثر عليها. في بعض الأحيان، كانت فطيمة تغشني. أمسك بالحجر، فتعتذر وتعيد إلي المساتيك.
كان تخيل منظر بيتنا تحت الرمل يصيبني بالهلع، كأنه مرآى يوم الحشر. أن تموت اختناقا تحت الرمل؟ موت فظيع. لماذا لا يوجد في جهنم عقاب بالرمل؟
في اليوم الذي ستختفي فيه فطيمة، كنا أمام بيتنا الجديد. البيت الإسمنتي الذي سهرت أمي ونحن على بنائه إلى أن اكتمل وحسبناه بيتنا، إلى أن اكتشفنا أن أبي سجله باسم عمي لسبب غريب لم يفهمه أحد في الواحة كلها.
كنا قد غادرنا البيت الطيني وسكننا البيت الجديد، وكان فيه شيء يشبه المعجزة: كنا نحك أزرارا فيعم نور كنور النهار. البيت مضاء ليلا… وقد شكل ذلك تحولا كبيرا في علاقتي بالأشياء.
أعتقد أنه أكبر تحول حدث لي في علاقتي بالعالم، ولكن تأثيره لم يكن أهم من النظارات الطبية التي مكنتني من رؤية العالم بوضوح، والتي امتلكتها في سن التاسعة، بعد أن قضيت أربع سنوات في شبه ظلام في المدرسة. بفعل الإنارة، وبفضل النظارات، كنت أرى الأشياء بوضوح أكثر وخوف أقل.
اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: التجسس على الجبنة
في اليوم الذي كانت ستختفي فيه فطيمة، كنت وإياها نلعب حين هبت ريح قوية. امتلأت أعيننا بالرمل فعدوت أنا إلى داخل البيت تاركة صديقتي على قارعة طريق الوحدة التي كانت تمر أمام بيتنا. استمر هبوب الريح حوالي نصف ساعة. هكذا أقول الآن، لكننا لم نكن أيامها نمتلك ساعة لأعرف الزمن بالتحديد. المعيار الوحيد الذي كنا نمتلكه عن الوقت، هو وقت بدء إرسال التلفزيون في الساعة السادسة بعد الزوال، وهذا يعني أننا نقضي الوقت قبل هاته الساعة خارج الزمن.
كنا نقضي معظم الوقت خارج الزمن. من أجل مقاومة الحرارة في الصيف، كان علينا أن نقضي اليوم الطويل في البيت بدون حركة. نبقى مستلقين على ظهورنا ونحن ننظر للسقف أو ننظر لبعضنا البعض ونضرط لقضاء الوقت.
كنا نتنافس في الضراط، ونحسب طولها وصوتها ونرى من المنتصر في إخراج أطول ضرطة.
كنا أمام بيتنا الجديد. البيت الإسمنتي الذي سهرت أمي ونحن على بنائه إلى أن اكتمل وحسبناه بيتنا، إلى أن اكتشفنا أن أبي سجله باسم عمي لسبب غريب لم يفهمه أحد في الواحة كلها
كنا أيضا نتنافس في الخراء ونعد عدد الكويرات السوداء التي نخرجها من أحشائنا. كانت هاته ألعابنا، إذ لم نكن نتوفر على أية ألعاب من دمى ومسدسات وغيرها من الألعاب التي يعرفها الأطفال في العالم. كانت حياتنا خشنة ومليئة بالحرمان من كل شيء.
حين توقفت الريح، خرجت. كان أخ فطيمة جالسا ورجله مربوطة بالحمال إلى شجرة تالكوت أمام البيت. كان رأسه ممتلئا بالرمل والمخاط ينزل من أنفه أنهارا متدفقة. كان يصيح “فطيمة عن عن”. لم أفهم قصده. فكرت أن فطيمة سئمت من حمله فوضعته على الأرض وتركته.
كنت أنا أيضا أفكر دائما أن أفك حمّال أخي وأهرب إلى أي مكان آخر. مكان أمتلك فيه دمية وألعب كما يليق بطفلة، بدل حمل ذلك الوغد الثقيل على ظهري النحيف.
حملت أخ فطيمة وذهبت به إلى بيت أمها “تشاويت”. تسمى كذلك لأنها آتية من منطقة تاشوين. أمازيغ من المغرب الشرقي، رأيتهم فيما بعد بملابسهم الزاهية وقصة شعورهم المختلفة. النساء كن يضعن قصات كثيفة ويضعن فوق شعورهن خرقا بألوان فاقعة.
حين سكنت في ميسور، رأيتهم ينزلون إلى المدينة ويمارسون التسول. كانوا عائلات بأكملها تجوب شوارع ميسور وتطلب الصدقة. أم فطيمة كانت من تلك القبيلة، لكنها لم تكن تمارس التسول، بل هي ربة بيت عتيدة تصنع الزرابي الأمازيغية بالصوف البلدي، فيما زوجها بائع متجول، يبيع العكر الفاسي والصابون البلدي وخيش الحمام ومقابط الباتشا.
سألتني تشاويت عن فطيمة وقلت لها إنني تركتها أمام البيت حين هبت الريح، ولم أجدها حين خرجت. حاولت أن تسأل الطفل ذي العامين لكنه كان يكتفي بالقول: “فطيمة عن عن”.
قلت لها: “ربما يقصد أنها ركبت سيارة”. كنت قد سمعت فطيمة تقول له إن السيارات تحدث صوتا هو “عن عن”. ولولت تشاويت وصرخت: “إبنتي ركبت سيارة، هذا يعني أن أحدا خطفها. ياويلتي! ماذا أقول لأبيها وأعمامها؟ أضعت البنت ياويلتي”…