عبد الرحمان اليوسفي، من الوزارة الأولى إلى اعتزال العمل السياسي 3/3
يحكي عبد الرحمان اليوسفي في مذكراته “أحاديث في ما جرى”، أن إدريس جطو اتصل به بداية 1998، وقد كان الأخير وزيرا للمالية وقتذاك، فأخبره أن الملك الحسن الثاني كلفه بلقائه ليعرض عليه ملخصا حول الأوضاع الاقتصادية للمغرب
بعدما تابعنا في الجزء الأول من هذا البورتريه، بعضا من تفاصيل نشأة عبد الرحمان اليوسفي وإسهام المهدي بنبركة في إدخاله غمار السياسة، رأينا في الجزء الثاني بعضا مما كابده بعيد الاستقلال من معاناة مع التضييق السياسي، الذي انتهى به مغتربا في فرنسا لـ15 عاما، ثم توقفنا في الأخير عند تفصيلة اختياره من طرف قيادة الاتحاد الاشتراكي لإلقاء كلمة تأبينية على قبر زعيمهم عبد الرحيم بوعبيد بعيد وفاته.
فما الذي حدث بعد ذلك؟ ذاك ما سنعرفه في هذا الجزء الثالث والأخير.
نظريا، كان اختيار عبد الرحمان اليوسفي لإلقاء كلمة تأبينية أمام قبر الراحل عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان كاتبا أولا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، رسالة واضحة، على منحه مشعل قيادة الحزب في ما قدم.
ذلك ما حصل بالفعل، على الرغم من معارضة ومناورات الجناح المحسوب على محمد اليازغي للأمر. بيد أنه، واحتجاجا على التلاعب الذي عرفته الانتخابات التشريعية لعام 1993، قدم اليوسفي استقالته من الكتابة الأولى، وتم العدول عما سمي بـ”التناوب التوافقي” آنذاك.
اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات…
استقالة لم يتم قبولها من الحزب، إذ ألح على استمرار اليوسفي في منصبه. ثم في سياق إصلاحات جديدة عرفها المغرب، أبرزها دستور 1996، الذي نظر إليه بعين الرضا، بدأ مسلسل المصالحة مع النظام السياسي.
يحكي اليوسفي في مذكراته “أحاديث في ما جرى”، أن إدريس جطو اتصل به بداية 1998، وقد كان الأخير وزيرا للمالية وقتذاك، فأخبره أن الملك الحسن الثاني كلفه بلقائه ليعرض عليه ملخصا حول الأوضاع الاقتصادية للمغرب.
ثم في الأخير، أخبره أن الملك اضطر لإلغاء مسلسل التناوب الذي أطلق عام 1994، لإيمانه بأن التناوبي الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا مع من كانوا في المعارضة طيلة العقود الماضية، والمقصود هنا بالضبط، هو عبد الرحمان اليوسفي.
هكذا، في الـ4 من فبراير 1998، استقبل الملك الحسن الثاني، عبد الرحمان اليوسفي، بالقصر الملكي بالرباط، ليعينه وزيرا أولا، ثم قال له:
“إنني أقدر فيك كفاءتك وإخلاصك، وأعرف جيدا أنك منذ الاستقلال، لا تركض وراء المناصب بل تنفر منها باستمرار. ولكننا مقبلون جميعا على مرحلة تتطلب الكثير من الجهد والعطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام، حتى نكون مستعدين لولوج القرن الواحد والعشرين”.
بعد 2002، استمر التواصل بين الملك واليوسفي، فكان يستدعيه للمشاركة في أفراح العائلة أو بعض اللقاءات الرسمية، بل وعرض عليه بعض المهام مثل تحمل رئاسة هيأة الإنصاف والمصالحة نهاية عام 2003، والتي رفضها اليوسفي.
قبل توديعه، يضيف اليوسفي في مذكراته، عرض عليه الملك أن يلتزما معا أمام القرآن الموجود على مكتبه، على أن يعملا سويا لمصلحة البلاد وأن يقدما الدعم لبعضهما البعض.
اقرأ أيضا: بعض من كلام: هؤلاء… هم أعداء الملك
يتذكر اليوسفي في عهده بالوزارة الأولى، ما أطلق عليه “جيوب المقاومة”، ويقصد بهم أولئك الذي يرون في التغيير والتجديد تهديدا لمركزهم السياسي أو الاقتصادي.
لعل أحد أبرز هؤلاء، إدريس البصري، وزير الداخلية، الذي اقترحه الملك للاستمرار في منصبه لخبرته في ملف الصحراء، إذا كان المغرب مقبلا على استفتاء في الصحراء قرره مجلس الأمن عام 1998.
واليوسفي، بفطنته، فضل أن “يكون البصري ضمن الطاقم الحكومي عوض الديوان الملكي، إذ سيصبح حينذاك في موقع لن يتردد في استغلاله من أجل وضع عراقيل من شأنها تعقيد طرق الاتصال بالملك، ومن ثم عرقلة النشاط الحكومي”.
تمكن اليوسفي من بسط سيطرته على العمل الحكومي في نهاية المطاف، وذلك في ملفات عدة، كالمناقصة المتعلقة بالرخصة الثانية للهاتف، مثلا، إذ اختار الشفافية ومشاركة الجميع فيها على غير ما ابتغاه البصري، وهو ما ترتب عنه بعد ذلك إنشاء صندوق الحسن الثاني، وتلك قصة يمكن العودة إليها بالتفصيل في مذكراته “أحاديث في ما جرى”.
اقرأ أيضا: فاطمة أبدار تكتب: مسيرة الحفاة…أيام البصري وبنكيران!
عهد اليوسفي بالوزارة الأولى عرف أحداثا فارقة، أبرزها وفاة الحسن الثاني وجلوس الملك محمد السادس على العرش. اليوسفي يتذكر اليوم بكثير من الفخر بأنه كان على رأس من وقعوا على البيعة، بعد الأسرة العلوية.
معروف أن اليوسفي عانى من أمراض عدة، إذ تم اسئصال رئته اليمنى من خلال عمليتين جراحيتين عام 1955 بمدريد؛ كما أنه في نهاية الثمانينيات، اكتشف مرضه بالسرطان، وأزيلت له 25 سنتمترا من القولون.
في انتخابات 2002، أحرز الاتحاد الاشتراكي المرتبة الأولى. لكن… عكس نتائج الانتخابات، وعكس “المنهجية الديمقراطية” كما أكد اليوسفي وحزبه حينها، عين الملك إدريس جطو وزيرا أولا. اليوسفي، يومها، لم يفوت الفرصة بعد شكر الملك ليذكره أن المنهجية الديمقراطية تقتضي تعيين الوزير الأول من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في الانتخابات، والذي كان، في هذه الحالة، الاتحاد الاشتراكي.
اقرأ أيضا: هشام روزاق: دولة تجدد نــ(ــحــ)ــبها!
مع ذلك، استمر التواصل؛ فكان الملك يستدعي اليوسفي للمشاركة في أفراح العائلة أو بعض اللقاءات الرسمية، بل وعرض عليه بعض المهام مثل تحمل رئاسة هيأة الإنصاف والمصالحة نهاية عام 2003، والتي رفضها اليوسفي.
اعتزل عبد الرحمان اليوسفي العمل السياسي في أكتوبر 2003. ونظرا لإرثه السياسي الكبير، سمي شارع في طنجة باسمه، بحضور الملك في عيد عرش 2016، كما وأن الملك زاره شخصيا مرتين في المستشفى، إذ ألمت به وعكة صحية في أكتوبر من ذات العام.
وبقي منذ ذاك يحضر بعض اللقاءات أو الندوات الوطنية، يحظى باحترام الجميع، حتى وافته المنية بعد تطورات صحية بإحدى مصحات الدار البيضاء في الـ29 من ماي 2020، لتكون بذلك وفاته المشهد الأخير في حكاية واحد من أبرز رجالات السياسة في المغرب الحديث والمعاصر.
لقراءة الجزء الأول: البدايات… هكذا أثر المهدي بنبركة في اليوسفي حد أن أدخله غمار السياسة 3/1
لقراءة الجزء الثاني: عبد الرحمان اليوسفي: من المعارضة والمنفى الاختياري إلى قيادة دفة الاتحاد الاشتراكي 3/2