مرايانا يتذكر أب الأدب العربي نجيب محفوظبدأ كتابة الرواية مصادفة وانتهى به الحال إلى تشييد هرم أدبي..
رواية بعد رواية، صار نجيب محفوظ أبَ الأدب العربي، ومن أكبر أهرامات مصر الأدبية
يعد نجيب محفوظ أحد أبرز من كتبوا الرواية العربية، جاوزت رواياته الخمسين، استحق بها يوما… نيل جائزة نوبل للآداب، ثم بعد عمر مديد، ترك الحياة في 30 غشت من 2006، لكنه لم يترك الذاكرة…
في هذا البورتريه، نتذكر سيرة كاتب أولاد حارتنا، الحرافيش، ثلاثية القاهرة، ثرثرة فوق النيل وغيرهن كثير…
الجمعة 14 أكتوبر 1994… كنهاية أي يوم، الشمس تغازل الغياب بين ظهراني حي العجوزة بمحافظة الجيزة في مصر، ولا شيء يشي بأن حدثا ما سيقع بعد قليل…
يستعد رجل هرم يربو عمره عن الثمانين للخروج إلى محبيه في مقهى قصر النيل، حيث يضربون موعدا أسبوعيا للحديث في الثقافة والأدب والفلسفة وشؤون المجتمع… ومع ما كان يمكن أن يعيش فيه من بذخ وتكلف وبحبوحة، فهو كاتب مصر الذي تفاخر به الأمم، إلا أنه لم يكن له حارس شخصي حتى!
نزل من شقته كعادته، وفي انتظاره صديق يدعى فتحي هاشم، ركبا سيارة الأخير، وفجأة (وارد جدا بالمناسبة أن نصادف كلمة “فجأة” في قصص مثل هذه، يقول الكاتب الروسي أنطون تشيخوف)، ناداه شخصان من بعيد: محفوظ نجيب! لم يكن الشابان المتربصان يعرفان اسمه بدقة، فقط سمعا به وبكونه كتب رواية يتطاول فيها على الذات الإلهية فحُرّضا على الانتقام منه؛ ولجهلهما، قبلا بذلك.
كان نجيب محفوظ يكره السفر كثيرا، بخاصة في الطائرة. ومع أنه كان أول العرب الحاصلين على الجائزة، فقد اكتفى بإيفاد ابنتيه لتلقيها، فيما تابع هو الحفل على التلفزيون في البيت.
تهمة كهذه في رأي الجهلاء، تستدعي القصاص، والقصاص هنا بعبارة أخرى، يعني الاغتيال. هكذا سينتهي النداء إلى طعن جسم حاد في عنق الرجل الذي صار الآن بين فكي الموت… مضرجا في الدماء، سيستجمع صديقه فتحي قواه المنهارة، ثم سيوصله إلى المشفى وسيَدخُلانه بعد جهد جهيد، بعدما تعرفوا على الرجل الغارق في دمائه كعادة مستشفيات العالم الثالث.
بعد ضخ عبوات دم كثيرة وعملية ناهزت خمس ساعات، سيشرئب الرجل من عنق الزجاجة، ناجيا من الموت بأعجوبة.. ولتواضعه وطيبة قلبه وسعة فكره، سيسامح فيما بعد المتورطَيْن في محاولة اغتياله، لكونهما لم يقرآ روايته “أولاد حارتنا” حتى، لكن… هذه الحادثة، كانت النهاية السريرية لقلمه، قلم مصر الأول.
لم يعد بعد ذلك قادرا على الإمساك به. شلت يده اليمنى، فعجز عن الكتابة مطلقا. وحين عاد بعد عام ونصف ليخط على ورقة، خط خربشات بالكاد تقرأ كطفل صغير بعد في القسم التحضيري… صار جسده نحيلا، وضعف بصره أكثر، فزاد طين مشكلة نظره الوراثية بلة. ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كاد أن يصم… ومع ذلك، سيحافظ على صالونه الأدبي الأسبوعي ما أمهله الأجل، والأجل جعله يعمر بعد ذلك إلى أن ناهز عمره 95 عاما.
في 30 من غشت\أغسطس 2006، فارق الحياة بمستشفى الشرطة في محافظة الجيزة، بعد مشكلات صحية في الرئة والكليتين.
ظل اسمه بعد مماته محفورا في أذهان الناس؛ فقد كتب طيلة حياته عددا ضخما من الروايات فاق الخمسين، فاز على إثرها بأرقى جوائز الأدب، جائزة نوبل للآداب، عام 1988، كأول كاتب عربي وآخرهم إلى حدود اليوم.
سأله أحد المسؤولين عن المغزى من روايته “ثرثرة فوق النيل”، وكانت قد أثارت جدلا واسعا حينها لانتقادها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر، فقال له نجيب محفوظ ساخرا: “ده كلام حشاشين”.
نجلته، أم كلثوم، أكدت في حوار تلفزي سابق، أن أباها حصل على الجائزة تقديرا لسيرته الأدبية كلها، وليس عن روايته “أولاد حارتنا” وحسب كما أشيع، الرواية التي قوبلت بعد نشرها باستهجان كبير وبالمنع حتى.
وبمناسبة الحديث عن “نوبل”، فإن نجيب محفوظ كان يكره السفر كثيرا، بخاصة في الطائرة. ومع أنه كان أول العرب الحاصلين على الجائزة، فقد اكتفى بإيفاد ابنتيه لتلقيها، فيما تابع هو الحفل على التلفزيون في البيت.
اقرأ أيضا: “أوتوبيس 678: وللتحرش سينماه”
الحق أن أشهر روايات نجيب محفوظ هي رواية “أولاد حارتنا”؛ ويعزو قسم كبير من النقاد ذلك إلى المنع الذي جوبهت به. فبعد ثلاثيته[1] الشهيرة أيضا، صفدت قفلة الكاتب[2] قريحة محفوظ ودخل في حالة صمت أدبي. كانت رواياته قبل ذلك حافلة بالواقعية الاجتماعية، فكأنه كان بحاجة إلى نفس جديد، والمَخرج كان الواقعية الرمزية.
“أولاد حارتنا”، كانت السبب المباشر في محاولة اغتياله، كما أسلفنا، وقد بدأ نشرها في جريدة الأهرام عام 1959، ثم أثارت رد فعل عنيف تسبب في وقف نشرها، ثم صدرت كاملة عن دار الآداب اللبنانية عام 1967، فيما لم يتم نشرها في مصر إلا بعد وفاته، بسبب وعد قطعه نجيب محفوظ لمندوب رئيس مصر سابقا، الراحل جمال عبد الناصر.
أما سبب رد الفعل هذا، فكان ما اعتبره البعض استعمالَ نجيب محفوظ قصص الأنبياء والذات الإلهية في روايته على نحو رمزي، قصد قراءة اللحظة السياسية والاجتماعية في مصر آنذاك؛ وقد كلفه ذلك اتهاما بالزندقة والكفر والردة عن الإسلام؛ وكان قاب قوسين أن يكلفه حياته أيضا.
عُرف نجيب محفوظ بكونه رجل نكتة… موهبته الأدبية الفائقة وقدرته على التقاط التفاصيل الصغيرة التي صنع بها صرحه الأدبي، جعلت منه شخصا محبوبا لدى الجميع؛ فكان في كل فرصة، لا يتوانى عن استخدام سرعة بديهته، لتحويل مواقفه اليومية إلى مواقف ساخرة مضحكة.
كان طفلا ينسخ حكايات الآخرين ويضع عليها اسمه، ثم مع بلوغه التاسعة عشر، بدأ الكتابة، ولم يتوقف عنها، مؤمنا بموهبته، إلى أن صار في الأخير أب الأدب العربي.
يحكى أنه في المرة الوحيدة التي ذهب ليشاهد فيها تمثالا له نصب في حي المهندسين في الجيزة، تفاجأ من شكله وقال: “يظهر أن الفنان الذي صمم هذا التمثال لم يقرأ لي سوى رواية الشحاذ[3]“.
وحينما سأله أحد المسؤولين عن المغزى من روايته “ثرثرة فوق النيل”، وكانت قد أثارت جدلا واسعا حينها لانتقادها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر، قال له: “ده كلام حشاشين”.
ويروي الأديب المصري الراحل جمال الغيطاني أيضا، أن نجيب محفوظ قال له يوما يصف لحظة زلزال ضرب مصر عام 1992: “كنت أجلس في الصالة، شعرت به بقوة، وتطلعت إلى السقف منتظرا سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري”، وبرلنتي عبد الحميد هذه كانت من أشهر نجمات السينما المصرية حينذاك وكانت تسكن في الطابق فوق شقة نجيب محفوظ.
اقرأ أيضا: “عن الغزالي وابن رشد: مشاهد من جريمة اغتيال”
نجيب محفوظ ولد عام 1911 في القاهرة، وتخرج في جامعتها عام 1932 من قسم الفلسفة، ثم تقلد عدة مناصب في حياته قبل تقاعده وتفرغه للأدب، من بينها مستشار وزير الثقافة لشؤون السينما؛ ولا غرابة في ذلك، إذ يعد أكثر كاتب عربي حولت رواياته إلى أفلام سينمائية.
ومع أنه درس الفلسفة وتشبعت بعض أعماله بالروح الفلسفية، إلا أنها لم تستهوه كمشروع حياة، فقد اختط لنفسه باكرا المسار الأدبي، وإن جاء ذلك مصادفة… يقول في حوار صحفي: “صدفة، كنت في الثانية عشر حينما لاحظت خلال فترة الاستراحة المدرسية زميلا يقرأ كتابا مغايرا لمقرراتنا المدرسية. استفسرته، فأجابني: “إنها رواية، وسأمدك بها”.
منذ لحظة قراءتها، يقول محفوظ، لم يتوقف عن القراءة إلى أن ضعف بصره. كان طفلا ينسخ حكايات الآخرين ويضع عليها اسمه، ثم مع بلوغه التاسعة عشر، بدأ الكتابة، ولم يتوقف عنها، مؤمنا بموهبته…
طيلة 15 سنة الأولى لم يكن يعير أحد اهتماما لرواياته، لكنه، رواية بعد رواية، صار في الأخير أب الأدب العربي، ومن أكبر أهرامات مصر الأدبية.