أسماء بن العربي تكتب: سوق في راحة اليد
لم تكن الأسواق الأسبوعية والموسمية الكبرى، فيما مضى، فضاءً للبيع والشراء فقط. كانت حياة كاملة تكسر روتين أجدادنا اليومي وتهبٌهم، لا المؤن فقط، وإنما صورة عن العالم الذي انقطعوا عنه …
لم تكن الأسواق الأسبوعية والموسمية الكبرى، فيما مضى، فضاءً للبيع والشراء فقط. كانت حياة كاملة تكسر روتين أجدادنا اليومي وتهبٌهم، لا المؤن فقط، وإنما صورة عن العالم الذي انقطعوا عنه في بواديهم وأوديتهم وقمم جبالهم.
يكفي أن تدخل وسائل التواصل الاجتماعي لتجد العالم الصاخب الذي كان ينتظر جدودنا مجيئه أسبوعا أو سنة كاملة.
يأكلون “السفنج” والشواء ويضحكون ويتلقون الأخبار. يسددون الدين أو يستدينون مجددا. يشترون دواءً من العشابين والمحتالين. يشردون في الحلاقي ويسمعون لوعاتهم مغناة في عيوط محزنة. يحلون ألغاز سرقة أو جريمة وقعت. يتصدقون. ينممون. يختلسون النظر لبعضهم البعض. يتخاصمون ويتصالحون. يبنون بالنظرات الحارة وبالكلمات المختلسة حكايات ستتنامى سوقا بعد سوق، حتى تنتج زواجا أو فضيحة.
اقرأ لنفس الكاتبة: في الرقية الشرعية: طوبى للذين لا يَسْتَرقون
يأتي العالم إليهم في السوق ضاجا مربكا، ويأخذون حصتهم منه قبل أن يرحل في المساء وتعود الحياة لسابق عهدها. كانت الأسواق ضرورة وأسلوب عيش، حتى أن معظم المدن الصغيرة والمتوسطة تدين بنشأتها للسوق.
مع ثورات التواصل وتحول العالم إلى راحة كف، صار السوق في متناول اليد. يكفي أن تدخل وسائل التواصل الاجتماعي لتجد العالم الصاخب الذي كان ينتظر جدودنا مجيئه أسبوعا أو سنة كاملة.
إنه سوق بلا خيام ولا غبار ولا ضجيج ولا زحام، تدخله بنقرة واحدة فتجده رهن إشارتك اليوم كله. العملة الرائجة فيه هي اللايكات والمشاهدات والمشاركة. كلما تسوقه الواحد، خرج يحصي ما أنفقه وما حازه منها.
هنا النجوم المدججون بآلاف اللايكات والعامة الذين يكدحون للحصول على حفنة منها
الكل يبيع والكل يشتري والبضائع متنوعة من سلفيات الوجوه والأجساد الى صور موائد الطعام والمناظر الطبيعية والحيوانات والكتب؛ من أقوال الفلاسفة والكتاب الى لغو التافهين؛ من بيت الشعر الى الشتيمة…
هنا يتجاور الحقيقي والمزيف، الأسماء المستعارة والوجوه الحقيقية، البراق والخادع والأصيل، الهزلي الضاحك والمأساوي، ما ينير ويثقف وما يلهي…
هنا يمكنك أن تجد من يَعِض ومن يتفلسف، من يتشاعر ومن يهدي، من لا يعرف ما يفعل بوجوده الفعلي فيبدده في الافتراضي، من يعرض عاهاته النفسية، ومن يسرق الأفكار ويعيد تدويرها. من يسرق القلوب، ومن يسرق بطائق التعبئة من خلال بروفيل مسروق. من لم يمنحه العالم صفةً، فيمنحها لنفسه…
اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: ثورات الإعلام والمعلومات التي لا تنتهي
هنا النجوم المدججون بآلاف اللايكات والعامة الذين يكدحون للحصول على حفنة منها. إنه سوق طاف فوق ماء الوهم، بلا ركائز ولا جذور وبلا مآل يشده للحياة، لإنتاج تجربة ما.
سوق تصير فيه اللغة بلا معنى، والبلاغة جوفاءً… سوق تصير فيه كتابة تعليق عن قصيدة أو فكرة أو صورة أو ما شابه، أمرا لا يتطلب مجهودا… يكفي أن يغترف الواحد من صيغ: “أيها الرائع”، “محبة لا تشيخ”، “سلمت أناملك”، “دمت بهية”…
لم تعد الكلمات كلماتٍ. صارت أقنعة يدخل بها الواحد الى حفل تنكري صاخب، كل شيء فيه مباح وجائز.
لم يمت السوق، كما لم تمت الزاوية أو القبيلة… لقد امتلكنا دوما عبقرية إعادة انتجاهم في حياتنا الحديثة.