صلاح الوديع: ميراث النساء… مرة أخرى
يحدث أن تصمت المجتمعات عن أشكال من الظلم الاجتماعي ردحا من الزمن، بل يحدث أن يعتبر الحديث فيها طابوها يقارب المحرمات، لكن قوة الاشياء وناموس التطور يعيد الاسئلة إلى الواجهة …
يحدث أن تصمت المجتمعات عن أشكال من الظلم الاجتماعي ردحا من الزمن، بل يحدث أن يعتبر الحديث فيها طابوها يقارب المحرمات، لكن قوة الاشياء وناموس التطور يعيد الاسئلة إلى الواجهة في كل مناسبة تتَاح.
من هذه المواضيع ما يتعلق بميراث النساء.
يعرفُ المتتبعون – ربما عن ظهر قلب – الجملة القاطعة الحاسمة التي كانت تواجه بها كل محاولة لطرح الموضوع في حلبة النقاش العمومي: “لا اجتهاد مع وجود النص“، وغالبا ما كانت ترفع هذه القولة في وجه كل اجتهاد أو تأويل أو اقتراح يراد منه مراجعة قواعد الإرث كما تمارس عندنا منذ عقود.
مناسبة هذا الكلام صدور كتاب في الموضوع منذ بضعة أشهر تحت عنوان “ميراث النساء“، تمت ترجمته إلى الفرنسية والإنجليزية.
هذا الكتاب مهم للغاية. أهميته تكمن أولا في القيمة العلمية للمشاركين فيه والذين ينتمون إلى مجالات معرفية متنوعة: العلوم الدينية والسياسية والقانونية وعلم النفس والانتربولوجيا…الخ، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذة أسماء المرابط والأساتذة أحمد الخمليشي وطارق أوبرو ومحمد عبد الوهاب رفيقي ومحمد الموقت وأحمد الغزلي، وغيرهم؛ مع إضاءات من تجارب مغايرة من داخل الفضاء الإسلامي: التجربتان التونسية واللبنانية.
يُحيل الكتاب إلى ظاهرة احتكار الحديث في الميراث من طرف من يسميهم “أخصائيي الدين” الذين يتصرفون كأنما هم مكلفون ب”تدبير مفوض” في الموضوع.
الكتاب مهم ثانيا بالنظر إلى المقاربة المعتمدة والمتسمة بالتعقل والجرأة في آن. وهو مهم ثالثا لكونه يعيد الجذوة باتزان إلى النقاش الذي انطلق بشكل مرتبك في السنوات الأخيرة وشهد ملاسنات وصلت إلى حد إطلاق حملات تكفير لحقت أكاديميين ونشطاء وسياسيين، بل ومؤسسات وطنية. وهو مهم رابعا – وربما ليس أخيرا – لكونه يناقش الموضوع من داخل النص الديني الإسلامي، خاصة النص القرآني، لا من خارجه.
وإذ أحيل على الكتاب من أجل اطلاع أعمق على محاوره الثلاثة: الدينية والسياسية القانونية والمجتمعية، يبدو لي من المهم بالنسبة لجمهرة المتتبعين التوقف عند بعضِ ملامحَ من المحور الأول: المحور الديني.
يُحيل الكتاب – بدءا – إلى ظاهرة احتكار أمر الحديث في الميراث من طرف من يسميهم “أخصائيي الدين” الذين يتصرفون كأنما هم مكلفون ب”تدبير مفوض” في الموضوع، لا قِبل لأحد في منافستهم عليه. كما يعيد إلى الأذهان أن أهم ما يرد على لسان المدافعين على إبقاء نظام الإرث في صيغته الحالية التي لا تقيم وزنا للتحولات الاجتماعية التي أناطت بالمرأة مسؤوليات اجتماعية خارج الوسط العائلي الضيق، أهم ما يرد هو الآية 11 من سورة النساء: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”.
هناك آيات تم إهمالها وتهميشها بمبرر النسخ أو ما شابه
في مواجهة ذلك، تورد مقدمة الكتاب التي صاغتها المشرفة على المشروع الدكتورة سهام بنشقرون، تذكيراً بعدد من الآيات التي تم إهمالها وتهميشها بمبرر النسخ أو ما شابه، مع أنها أقرب إلى الإنصاف والعدل. من ذلك مثلا الآية 180 من سورة البقرة التي تنص على الحق في الوصية بشكل لا يقبل التأويل: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ”. واضحٌ كيف أن الوصية جائزة “للوالدين والأقربين” وهي صيغة قابلة للتوسيع اجتهادا. ثم تورد المقدمةُ الآيةَ 8 من سورة النساء: “وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا…”. حيث يتضح بجلاء كيف أن حتى اليتامى والمساكين يمكن أن يكون لهم نصيب من الميراث، هذا في حين أن الاجتهاد الفقهي اختار تجاهل الآيتين أعلاه وهما أوسع دلالة واتساعا واختار التركيز على القاعدة الفقهية المعروفة والتي يرددها الكثيرون على أساس كونها قولا فصلا :”لا وصية لوارث”.
يظهر من هذا المثال كيف أن الصراع على تأويل النص القرآني، الذي هو جزء من تراثنا الديني، له أوجه تهم ديناميات الهيمنة المجتمعية، الثقافية والسياسية وغيرها، وهو ما يجعل المجتمع ونخبه أمام مسؤولية العمل على إنتاج فقه مستنير، يتناول قواعد الإرث من ضمن ما يتناوله، ويتناسق مع التحولات الاجتماعية العميقة التي أضافت إلى المرأة مسؤوليات جديدة إلى مسؤولياتها داخل الأسر، وينسجم مع ما بلورته البشرية من حقوق يصبح التنكر لها بأي مبرر ضربا من الإصرار على الإبقاء على المرأة في وضعية دونية لا تطاق.
المضمون العلمي والجدالي للكتاب أكبر من أن يجتمع في مقال من هذا الحجم. لذلك لا مناص، للباحثين والمهتمين وحتى لجمهرة المتابِعِين، من الاطلاع عليه.