تاريخ العنف المنزلي: هكذا كسبت النسوية أشرس المعارك الفكرية في تاريخها 2\2
أصل مأساة كل النساء خلال القرون الوسطى تتلخص في مايسمى “واجب التصحيح”، كما تابعنا في الجزء الأول من هذا الملف الذي نترجمه عن جريدة لوموند الفرنسية بتصرف مرايانا.
وإذا رأينا في الجزء السابق، أنّ عصر التنوير وضع معاييراً جديدة، تدين مبدئيا العنف ضدّ المرأة في أوروبا، فإنّنا في هذا الجزء الثاني، نقدم نظرة عن قانون نابليون الذي تضمن تراجعا كبيراً فيما يتعلق بالعنف المنزلي بعد إقراره “طاعة” الزوجة للزوج في القانون المدني.
وسنرصد أيضا النضالات النسوية وكيف ساهمت في تغيير مجرى التاريخ في هذا الجانب بالضبط.
نابليون: التراجع مجددا
في عام 1804، سيعود القانون النابليوني ليكرس من جديد قدرة الزوج المطلقة، ويعلن أن الزوجة مدينة له بـ”الطاعة”. باسم الطبيعة، يثبت هذا النص التفوق المطلق للزوج في الأسرة وعجز الزوجة، كما تنقل لوموند عن المؤرخة ميشيل بيروت.
وفق ذات المنطق، لا يمكن للمرأة المتزوجة أن تكون معلمة، أو أن تجلس في مجلس عائلي، أو أن تكون شاهداً أو أن تتصرف في ممتلكاتها داخل المجتمع. شكل هذا القانون النابليوني نكسة وعودة للوراء. كان بمثابة سفينة ظلت فيها المرأة “مقيدة” رغم كلّ شيء، وفق تعبير الكاتب ليون دوديت.
أما قانون العقوبات لعام 1810، فقد أقر تبرئة الزوج عندما يقتل زوجته بسبب فعل “زنا” جرى في منزل الزوجية، وهذا يسمى “المادة الحمراء” (l’article rouge).
ويبدو أنّ هذه الحركية المشتركة للقانون المدني والقانون الجنائي منحت الزوج من جديد صلاحية كاملة ليكون وصيا أو عنيفا، خصوصا حين تمّ إلغاء الطلاق في عام 1816، وهو مخرج تم إغلاقه في وجه النساء حينها، كما تلاحظ المؤرخة فيكتوريا فانو.
ما يتعلق بالحياة الزوجية والأسرية ظلّ نطاقا محصنا عن أعين المحاكم الجنائية، لأنّ الشرطة حينها لم يكن بوسعها التدخل بين شخصين تتم مشاكلهما في نطاق مغلق.
هكذا، فإذا كان لنظام العدالة الجنائية الحق في معاقبة الاعتداءات التي قد تتعرض لها المرأة من قبل جارتها أو من قبل شخص غريب، فإنه في نفس الوقت يحرص على عدم الاهتمام بتلك الاعتداءات التي يكون الزّوج مصدرها. الحياة الزوجية بالنسبة للقضاة حينئذ هي مسألة قانون مدني بشكل حصريّ.
غير أن محكمة النقض ألغت هذه القاعدة في عام 1825. المحكمة العليا حينها طبّقت لأول مرة القاعدة الجنائية على خصومة بين زوجين. هذا القرار، الذي يسمح أخيرا للنساء اللواتي تعرضن لسوء المعاملة من قبل أزواجهن باللجوء إلى المحاكم الإصلاحية ومحاكم الجنايات، هو نقطة تحول حاسمة، بالنسبة للمؤرخة فيكتوريا فانو.
استغرق الأمر وقتا ليصبح متداولاً، إذ بدا واضحا أنّ تصميم النظام الجنائي تمّ لحماية سلامة الأفراد من الوحشيّة في الزواج كما هو الحال في المجتمع ككل.
خلال القرن التاسع عشر، بدأ نظام العدالة عملية تأهيل بطيئة، أدت، قضية تلو الأخرى، إلى “الاختراع القانوني” للعنف المنزلي، كما ترى فيكتوريا فانو، التي تجد أنه على الرغم من ندرة الشكاوى وصعوبة التحقيقات، فإن القضاة، في تفاوضهم اليومي المستمر بشأن المعايير، يقومون تدريجياً بتفكيك استبدادية الزوج المتوارية خلف ما يسمى بـ“واجب التصحيح“.
مع ذلك، لم يبدأ التسامح الاجتماعي تجاه العنف في التراجع إلا مع نهاية القرن التاسع عشر. القسوة المتداولة في الوسط الأسري، سيما ضد الأطفال، باتت حينها تتعرض لاستنكارات جدية ولانتقادات متزايدة. الدولة أصبحت تسمح لنفسها، في كثير من الأحيان، بالتدخل في مجال الحياة الخاصة أيضا إذا بدا فيه ما يعارض القانون.
ساهمت في هذا التحول الموجة الأولى من النسوية، التي ظهرت في نهاية ستينيات القرن التاسع عشر. هذه النسوية طرحت مسألة اللامساواة التي تتم داخل “مؤسسة الزواج” على طاولة النقاش. حينها، لاحظ الفيلسوف فريدريك إنجلز في عام 1884، في كتابه “أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة“، أن المرأة باتت تتمرد ضد “هيمنة” الرجل.
أمل جديد
لم تكن مكافحة العنف المنزلي من أولويات النسويات في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، إلا أنها لم تكن غائبة عن مخاوفهن وتصوراتهنّ. تقول الباحثة في النسوية كريستين بارد، إن عدم اعتبار العنف الممارس في البيت أولوية لا يعني أن النسويات لا يشرن أبداً إلى الانتهاكات الزوجية، خاصة وأن بعضهنّ، مثل الكاتبة والصحفية الفرنسية سيفيرين (1855-1929) كانت ضحية لهذا العنف.
بالنسبة لهذه “الموجة الأولى” من النّسوية، التي ستنتهي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإنّ العنف يتصل بنيويا بالبؤس الاجتماعي وليس بوضع المرأة فقط. النّاشطات، وقتئذ، اللائي كن منتميات إلى الطبقات المتوسطة، اعتبرن أن الوحشية تجاه الأطفال والنساء هي آفة تؤثر بشكل أساسي على الطبقات العاملة.
كنّ بوضوح يساريات تؤمنّ بجدوى السياسات الاجتماعية. بالنسبة لهنّ، الرهان على تحسين الظروف المعيشية للطبقة العاملة سيقلل تدريجياً من العنف في المنزل.
في سنة 1938، تم إلغاء واجب طاعة الزوجة لزوجها من القانون المدني، تبعا للقيم الجديدة التي شهدتها مجتمعات القرن العشرين بأوروبا، ساهم في ذلك تراجع “الذكورية السامّة” في القرن التاسع عشر قبلاً، خصوصا في الفترات الفاصلة بين الحروب. آنذاك صارت الأفكار الذكورية قابلة للضبط.
لكن العنف الزوجي لم يطف لسطح النقاش مجددا إلا بعد ماي 1968، مع الموجة الثانية من النسوية. تشير الباحثة كريستين بارد هنا، إلى أنه، في فترة هيمنة الأفكار الثورية في السبعينيات، اعتُبرت حصيلة النسوية مخيبة للآمال، ما سمح بوضع آليات جديدة لاضطهاد المرأة من جديد.
خلال السبعينيات، فقدت النسويات، بقيادة الموجة الأولى، الاهتمام بالكفاح من أجل المساواة في الحقوق: كنّ تُحللن النظام الأبوي على أنه اغتراب عالمي يخضع جميع النساء، من الولادة إلى الموت حتى الطفولة أو الأمومة أو النشاط الجنسي.
أعلنت ناشطات الموجة الثانية، لأول مرة، أن الفضاء الخاص سياسي بامتياز. لذلك، صار الاهتمام بكل ما يتم داخل عالم الزوجين محوريا بما في ذلك التنديد بالعنف. تمت محاولة الفهم بشكل أساسي من أجل بناء وعي جديد وأنماط تفكير جديدة تجاه الظواهر المتصلة بالعنف.
لم يعد الوضع مجرد تنظير فوقي للعنف أو عمل سياسي يردد شعارات الإدانة، بل صاحب ذلك افتتاح منظمة SOS Femmes Alternative في كليشي الفرنسية عام 1978. المبادرة تتعلق بأول مأوى للنساء المعنفات، والذي يحمل اسم شخصية اشتراكية، فلورا تريستان (1803-1844).
طبعا، لم تكن حركة تحرير المرأة تسعى أن تحل محلّ السلطات العامة أو تنافسها في صلاحيتها، بل كان العمل مقتصرا على مكافحة العنف المنزلي، بشكل يتخذ نهجا عمليا ورائدا. تم ذلك عبر تأسيس جمعيات وإنشاء مراكز استقبال ومراكز نجدة وخطوط هاتفية تتكامل مع الهياكل العامة.
لكن، في بداية القرن الحادي والعشرين، تم كسب المعركة السياسية والأيديولوجية ضد العنف المنزلي. يرى المؤرخ فريديريك شوفو أنّ هذه الأعمال الوحشية، التي ثبت أنها أكثر انتشارا مما كان يعتقد سابقا، أصبحت وقتها مدانة عالميا.
منذ التسعينيات، نشأت حساسية حقيقية لهذه القضية في فرنسا، ولكن أيضا في المحافل الدولية، كما يتضح من إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة، في عام 1993، أو المؤتمر العالمي للمرأة في بكين، في عام 1995.
بطبيعة الحال، هذه التعبئة للسلطات العامة لم تضع حدا للعنف المنزلي، ولكنها حولت هذه الجرائم، التي اعتبرت على مدى قرون تافهة، بل وشرعية، إلى حالة شاذة أدانها بشدة المجتمع والعدالة والسلطة.
في سنة 2017، ستبدأ حركة metoo#، التي ختمت وحدة الموجة النسوية الثالثة حول مكافحة العنف ضد المرأة. تعتبر كريستين بارد أنّ metoo# ستظلّ لامحالة واحدة من أعظم الأحداث في تاريخ النسوية؛ إذ جعلت الكفاح ضد الوحشية داخل الفضاء الأسري للزوجين في قلب نضالها… لمدة خمس سنوات.
- الجزء الأول: العنف المنزلي في القرون الوسطى: كيف منحت الأعراف “الأوروبية” للزوج الحقّ في تعنيف شريكته؟ 1\2
مقالات قد تثير اهتمامك:
- المدير العام لجمعية ECPM: “القتل المقنّن” لم يعد له مكانٌ في عصرنا، والمغرب يقترب من إلغاء عقوبة الإعدام
- ما دام لا ينفذها… لماذا لا يُعدم المغربُ “العقوبةَ العظمى” (الإعدام)؟ 1\2
- المغرب… المقاطعة وحراك الريف! أزمة تواصل المؤسسات السياسية؟
- ادريس بن زكري… سيرة مهندس العدالة الانتقالية بالمغرب! 2/1
- منظمة العفو الدولية: عمليات الإعدام في العالم تراجعت عام 2018 وهذا ما ندعو إليه الحكومة المغربية
رأيي يختلف عن الجميع،فهل نساء الذين يحرضن على عنف الرقمي؟