“نحن والمرض الخايب!”… لقطات من تعايش مغاربة مع أمراض فتّاكة - Marayana - مرايانا
×
×

“نحن والمرض الخايب!”… لقطات من تعايش مغاربة مع أمراض فتّاكة

قد يحدثُ ونعرف كثيراً من المرضى يعانون من أمراض مزمنة، بل وفتاكة، في محيطنا وفي معيشنا.

فكيف نقارب الأمراض الفتّاكة والمنُهِكة مُجتمعيًّا؟ وكيف يصبح ولوج المريض للمجتمع متعثراً بكوابح حازمة متعلقة، حصراً، بالمرض الذي يعاني منه: الإيدز، السرطان، القصور الكلوي أو أي مرض آخر؟

داخل كلّ حكاية تتوارى تفاصيل لا يمكنُ التقاطها كلّها. ومع ذلك، تراهن مرايانا على أن تقدّم شهادات لمغاربة يتعايشون مع أخطر الأمراض، التي يصفها مجتمعهُم أحيانا بـ”الخَبيثة” أو “الخَايْبة”.

ياسين: “السيدا” أو الحياة بلا لذّة!

نفتح هذا الملف بقصّة ياسين، 28 سنة، من مدينة مراكش. بعد تردد، قبل ياسين أن ينكأ “الجراح” ويتحدث عن مرضه، الذي يعيش معه مُكرهًا منذُ ثمان سنوات. يقول ياسين بصوته المبحوح إنّ القصة مع فيروس مرض فقدان المناعة المكتسبة- الإيدز، بدأت حين أجرى تحاليلاً شاملة لجسده سنة 2016… فما الحاجة من ورائها؟

يجيبُ ياسين: “كنت أودّ الاشتغال في الشرطة؛ لكنّ النكسة أنني اكتشفت إصابتي بهذا المرض الفتّاك. حين أخبروني بالإصابة فقدت القدرة على الوقوف، فلو كان مرضا آخر كالسكري أو ضغط الدم، سأتقبلها فيما بعد ربما. الكثير من أقاربي متعايشون معه، غير أنّ الأمر هنا يتعلق بالسيدا… بالموت البطيء”.

يتغيّر صوت ياسين فجأة، كأنّ الرغبة في البكاء راودته. يتوقف قليلاً ثم يسترسل: بفعل غياب الوعي الصحي، ظننتُ أنّني سأموت في أشهر قليلة. لم أعرف حتى منذ متى وأنا أحمل الفيروس وهل ولدت به أم انتقل إليّ في علاقات جنسية عابرة قمت بها في الماضي. لا أحد في عائلتي مصاب، لهذا صرت أعيش في خوف مستمر وقلق يومي.

في حديثه لمرايانا، حرص ياسين ألا يغفل نقطة مهمة بالنسبة إليه، وهي ما يعبر عنه قائلاً: عائلتي تعرف، وفي البداية ألقوا اللوم عليّ جازمين أنني قمت بعلاقات جنسية غير آمنة. هذا صحيح، لكن علاقاتي الجنسية لم تكن كثيرة مع ممتهنات الجنس، ولا أستطيع فعليا تحديد المرة التي يمكن أن أكون حملته فيها.

قضى محدّثتل شهوراً من التّفكير ومن محاولات الرّبط والشكّ في كلّ من مارس معهن الجنس. لسن كثيرات، حسبه. حتى أنه اتصل ببعضهنّ ليستفسر هل هنّ مصابات بالفيروس! الجميع أكدن له سلامتهنّ، وهو ما زاد من حيرته. يؤكد أنه “حتى لو كانت إحداهن تعرف، فلن تقول الحقيقة. ولم أصارح عائلتي إلا بعد شهور”.

مرة، فكّر ياسين في الانتحار، لكنه لم يقنع نفسه بالفكرة. فكّر بها، فقط، لأنه كان يودّ أن يرتاح من ذلك الضغط الذي نجم عن معرفته بمرضه. كلّ المشاهد يُجملها في قوله: كانت فترة قاسيّة متّ فيها عدّة مرات. الخوف كان كبيرا بينما الأمل كان صغيرا جدا حينها. العديد من الناس في محيطي لا يعرفون بمرضي، وحتى عائلتي فضلت أن يبقى مرضي غير معروف عند بقيّة الأهل حتى لا يكثر القيل والقال.

محدّث مرايانا يرى حياته المجتمعيّة محدودة، “فأنا لا أستطيع الزّواج، خوفا من نقل العدوى لإنسانة لا ذنب لها، كما أني لا أرتبط بالنساء ولا أمارس الجنس. حياتي بلا لذّة. يقول بعضهم إنّ ذلك ممكنٌ باستعمال الواقي الذكري؛ لكني أجد الوقت فات عن هذا الكلام كلّه. الحماية الآن هي الامتناع. لا أحمي نفسي. أنا مصاب وقضي الأمر، بل أحمي الأخريات”.

لقمان: المرض يشعرني بالذّنب

أصيب لقمان بمرض الفشل الكلوي منذُ كان طفلاً في الثامنة. لكنّ عائلته لم تدخر مالاً ولا جهداً لعدم إشعار الطفل أنه مريض.

يقول لقمان، 18 سنة، عن ذلك: “غمرتني عائلتي بالعطف والحنان وكلّ ما يجب. كنت وقتها لا أفهم خطورة المرض، لكني كنت أعي أنّ المرض خطير، سيما أنّني كنتُ أذهب لحصص غسل الكلي أربع مرّات في الأسبوع. كانت الحصص مرهقة جدا، خصوصا أننا كنا نقطع مئات الكيلومترات من الراشيدية. كان عليّ أن أتنقل من الراشيدية بكلّ الكلفة المادية والجسدية لذلك.

الغريب في قصّة الفتى أن مرضه يشعره بالذنب. ولكن كيف؟ ولماذا أصلاً؟

لأنه يعتقد أنه  كلّف عائلته وقتا كبيرا، كما أنّ تغطية تكاليف العلاج مرهقة والأدوية أثمنتها مرتفعة وكذلك التحاليل، إلخ… كلّ هذا يجعله أشعر بالإحراج دائما. يلخص كل هذا قائلاً: لا أعرف هل سأعيش لأرد لهم بعضا من كلّ ما فعلواه لأجلي أم لا.

هكذا يعلّل لقمان، مردفا: كنت أحاول اللعب فلا أستطيع أحيانا بفعل الألم، ولم أعد أستطيع ربط صداقات كثيرة. صرت أميل للعزلة لأنني لا أحبّ نظرة الشّفقة إطلاقا. الأمراض الخطيرة لها تكلفة نفسية واجتماعية باهظة، إذ تشعر أنّ هذا المجتمع لا ينتمي لك ولا أنت تنتمي له: أنت عليل والمجتمع سليم! أحيانا كثيرة أتساءل: لماذا علي أن أعاني هكذا؟”

في الأخير، يشدد لقمان على اعتقاده أن مرضى القصور الكلوي بشكل عام، هم في حاجة إلى مواكبة نفسية، لأنهم في كلّ حصة يشعرون أنها قد تكون الأخيرة لهم. يبرز ذلك موضحا: “أنت لا تعرف مصيرك؛ وإذا تأخرت عن ساعات العلاج الأسبوعية فذلك من أخطر ما يمكن أن يحدث لك. يوجد في الراشيدية أماكن لغسل الكلي، لكننا لأسباب عديدة نفضل فاس”.

يقدم المتحدث مثالاً قاسيا، يتجلى في أنه “حين تذهب لمراكز غسل الكلي أو المستشفيات التي تقدم هذه الخدمات، تجد لوائحا طويلة لأشخاص ينتظرون الخضوع لذات العلاج الذي جئت لأجله. معظمهم من مناطق مختلفة، لكن همهم جميعا هو التمسك بالحياة. وهذا يشعرني بالإحباط في كلّ مرة، ويشعرني أنني تعيس الحظّ لأنني لا أنعم بصحّة جيدة”.

تورية: في البدء، كانت نكسة

تلخّص تورية 33 سنة، شعورها في كلمة “الصدمة”؛ وتقول مضيفة: “تجمدت أطرافي حين عرفت بأنني أحمل ورما سرطانيا خبيثا في الدماغ. كنتُ أفكر كيف سأتعالج وهل سأتغلب على المرض أم سيهزمني مثل فلان وفلانة؟ وهل سيكون ضروريا أن أخفي خبر الإصابة؟

لكن السرطان يظهر على جسدك. يقتات منك داخليا وخارجيا. حتى لو أخفيت على الناس، فوجهك وشكلك وتفاصيلك ستفضحك. كنت أفكر في كيف سأخبر المجتمع أكثر من تفكيري كيف سأتعافى من مرض يعتبر من أخطر الأمراض”.

في البداية، كانت رغبة مغادرة العمل تطفو إلى تفكير تورية، لكنّها تفيد مبينةً لمرايانا: فكرتُ فعلا في الانعزال في بيتي. المرض أشعرني بالضّعف التام، وبأنني أقلّ من الآخرين في شيء ما. كنت أخاف الصور النمطية لدى المجتمع عن المرضى: “مسكينة فيها السرطان” أو حين تخبر أحدا يقول تلقائيا “يا ربي السلامة”. كنت أخشى أن أصادف هذه اللغة. دخلتُ في اكتئاب حاد جراء المرض، ولم أستطع النوم لأيام كثيرة، وزرت طبيبا نفسيا.

العلاج الكيميائي والإشعاعي والعمليات أرهق تورية نفسيّا وجسديّا، إلّا أنّها، مع ذلك، تسترجع التعب وتقول: حاولت التركيز على العمل فيما بعد ونسيان المرض، لكن آثاره أصبحت أقوى وبدأ شعري في التّساقط. قررت حينها المكوث في البيت وعدم الذّهاب مجددا للعمل أو الخروج من البيت. اشتريت قيتارة وقررت تعلم العزف عليها بعد رؤيتي لأهمية الفن بالنسبة للمصابين بالسّرطان. تابعت حصص التعلم على اليوتوب، وبدأت أبلي بلاء حسنا.

لم تكن تورية تغادر البيت إلاّ للضرورة القصوى أو لأجل العلاج، وحين أصبحت نحيفة جدا، خصوصا في سنة 2019، بدأت تخرج من المنزل متنكرة حتى لا يتعرف عليها أحد. قدم لها الطبيب بعض الأدوية فازداد وزنها، لكنّ شعرها ظلّ متساقطا، لهذا أصبحت ترتدي الحجاب “اضطرارا” من أجل إخفاء الأمر فحسب.

في ختام شهادتها “المؤثّرة”، تقول تورية: “العزف منحني شعوراً جميلاً لخوض المعركة، لكن كوني من عائلة متوسطة ساعد كثيرا، لأن تكاليف العلاج لم تهزمني، وأتصور دائما حالة الفقراء، كيف سيقاتلون هذا الداء الفتاك. المرض لا يستثني أحدا فقيرا أو غنيا أو من يوجد بين الثراء والعدم. ورغم كلّ ذلك، أنا مستمرة في خوض المعركة، وعلى يقين أنني سأنتصر، مادام الانتصار ممكنا”.

“جرح” مجتمعي للمرضى؟

عبد الهادي الحلحولي، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم والانسانية ببني ملال، يرى في تعليق على هذه الشهادات، أنّ التأمل في ما قاله ياسين ولقمان وتورية، يكشف عن وجود قاسم مشترك بين الشهادات؛ لعلّه يتجلى في كون علاقة الأفراد بالمرض المزمن هي علاقة جد معقدة، تتجاوز كل ما هو طبي إلى ما هو مرتبط بذات الفرد ككينونة، وتمتد لعلاقة الفرد بأسرته ثم علاقته بنظام مجتمعه الثقافي والاقتصادي.

المرض المزمن، وفق ما يفسره الحلحولي لمرايانا، هو مدخل للحديث عن النسيج العلائقي للفرد المصاب، وفقدان شهية العيش والتفاعل الاجتماعي. لكن، يظهر من خلال نفس الشهادات أن المرض المزمن ليس واحدا من حيث الدرجة والترتيب بالنسبة للأفراد، بل تختلف حدته وقوته الثقافية حسب طبيعته؛ فداء السيدا ليس هو مرض القصور الكلوي وهذا الأخير ليس هو مرض السرطان. لذلك نكوّن تراتبية اجتماعية وثقافية للأمراض تتدخل فيها الأسرة بشكل أساسي.

في رده عن سؤال: ما معنى تدخل الأسرة سوسيولوجيًّا في هذا السياق؟ يجيب الباحث السوسيولوجي معتبرا أنّ القول بتدخل الأسرة، يحيل هنا إلى نقطة مهمة ظهرت خلال كل الشهادات التي استقتها مرايانا: أن الأسرة تلعب دورا أساسيا في تدبير الفرد المصاب لمرضه، فهي إما تساعده على تدبير وقع الصدمة والإقصاء والعوز (حالة القصور الكلوي للطفل) أو تعمق من كل ذلك (حالة السيدا).

كخلاصة، يجد الحلحولي بأن ثمة مسألة أخرى لا تقل أهمية في هذا الموضوع، وهي ترتبط، بشكل حصريّ، بالوصم الاجتماعي الذي يترتب عن الإصابة بالمرض المزمن في المجتمع المغربي؛ لكن تختلف حدته بالنظر لطبيعة المرض وبالنظر للمرجعيات الثقافية للأسرة كما للمجتمع الواحد بالضرورة.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

  1. محمد شروق

    انا صحافي مغربي مؤلف كتاب أنا والسرطان سنة 2015..
    كتبته عن تجربتي مع السرطان
    ألفت انتباهكم لتجنب اوصاف مثل الخايب والفتاك لأنها تضر بنفسية المرضى
    أقتسم معكم مروري بإحدى البرامج حول تجربتي مع السرطان

    https://youtube.com/watch?v=0cML4VhYWwc&feature=share9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *