في مثل هذا اليوم، توفيت مّي فامة: حكاية أجمل الأمّهات… تفاصيل الطرد من الحزب والمواقف الإنسانيّة النبيلة! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

في مثل هذا اليوم، توفيت مّي فامة: حكاية أجمل الأمّهات… تفاصيل الطرد من الحزب والمواقف الإنسانيّة النبيلة! 2\2

في هذا البورتريه نبحث في سيرة امرأة نادرة واستثنائية بكلّ ما تحمله الصفتين من معنى.
تابعنا في الجزء الأول (تجدون رابطه في الأسفل) تفاصيلاً عن التحاق فامة بجيش التّحرير، وعودتها والتحاقها بالقوى التقدمية لفتح السبيل أمام مغرب ديمقراطي يتسع للجميع دون حيف أو إقصاء.

في هذا الجزء الثاني، نقدم بعضًا من سيرة فامة الإنسانة التي سكنها همّ كلّ مظلوم في وطنه الأم.

الطرد من الحزب…

عرفت فامة بنهجها اليساريّ المستقيم، والوفي لكلّ مناحي الفكر التقدميّ. لذلك، كانت من الممانعين لكلّ ما يمكن أن تتخذه القيادة من قرارات تصب في ما يمسّ جوهر الممارسة السياسية السليمة التي وُضعت ديباجة للحزب منذ تأسيسه مع عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة.

كانت، من جهة، لا تهاب السّلطة، ومن جهة أخرى لا تخشى القيادة داخل الحزب. كان اختلافها معبرا عنه في مداخلاتها ونقاشاتها بكلّ جرأة… لكن امرأة حاربت المُستعمر في الميدان وتجرّعت ويلات الحرمان، وباتت في العراء والخلاء في فترة المقاومة…. هل ينتظرون منها الخنوع لأي كان باسم السلطة السياسيّة أو القيادة الحزبيّة؟

الغريب أن ذلك أدى بها في نهاية السّبعينيات إلى الطّرد من طَرف محمد اليازغي، لأنها كانت فترة يريدون فيها طيّ بعض الصّفحات، وتمّ طرد مجموعة من المناضلين الممانعين. لكنّ فامة ظلّت متشبّثة بتلك الصّفحات، وقاومت القيادة فيها بشَراسة. وكان الخلاف “عميقا” لدرجة طردها.

يقال إنها حين سمعت قرار الطّرد قالت بسخريّة: “من الطاردُ ومن… المطرود!!”.

بعدها، أصبحت عضوا بحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، واتصلت بمناضلين من طينة أحمد بنجلون وعبد الرحمان بنعمرو، وغيرهم…

فامّة… الإنسانة

يشاع عن فامة أنها كانت صادقة للغاية. بسيطة جداً وحالمة كثيراً… كانت عطوفة على كلّ العمال والفقراء والمعدّمين والمسحوقين والمُشرّدين.

تقول زهرة أقري: لم تكن تتحرّج أن تجلب لنا للبيت أشخاصًا يسكنون الشّارع لنطعمهم أو نأويهم لتلك الليلة. كانت تحملُ عطفًا وحنانًا تجاه الجميع، بمن فيهم المختلون عقليًّا في الشّوارع، وتتوقف وتتحدث إليهم وتُصغي وتعاملهم بإنسانيّة مدهشة. لن نبالغ إن قلنا إنها كانت تتّصفُ بتلقائية وعفوية وصدق على نحوٍ منقطع النّظير.

تضيفُ أقري في شهادتها الغائرة في الذاكرة: في كل ندوة أو اجتماع في مقرّ الحزب، كانت تجمع ما استطاعت من النّساء والشابات. تضطرّ أحيانا إلى المرور علينا بيتًا ببيتًا، وتحاول أخذنا معها للتشبّع بروح السياسة. تقول بعفويّتها الدائمة: “زيدي مُكّ تمشي للاجتماع”.

كانت تقوم بذلك لأنها آمنت بدور المرأة في التغيير. وكانت تعي صعوبة ولوج النساء لعوالم السّياسة في سنوات الرّصاص، والبلد، أيضاً، كان حديث العهد بالاستقلال وقتها. المُدهش أنّها كانت تتدبّرُ مصاريف تنقلنا جميعًا، وتجعلنا نتضامنُ بيننا، وكلّ منا يساهم حسب قدرته.

تقول أقري بامتنان واضح: كانت مي فامة تتكلف حتى بإطعامنا إن تضوّرنا جوعًا، وتعهد إلى نفسها مهمّة حمايتنا.

فامة امرأة تبغضُ التّحرّش الجنسي، وكانت عنيفة جدا تجاه كلّ من يضايق إحدى الفتيات اللائي تصطحبهنّ معها، أو حتى حين تصادف موقفا مماثلاً في الشارع. كانت لها قواميسها من الشّتم، التي لا تعني البذاءة أو الدناءة أو الفحش، لكنّها كانت تعبيريّة. إذا تمادى شخص ما في صنيعه، قد تتدخّل بعنف جسديّ، لأنها كانت شجاعة وقويّة”.

كانت بمثابة الأم داخل الحزب، تفكّر في جوانب إنسانيّة ربما قد لا تبدو للمناضلين في تلك الفترة ذات أهميّة.

فامة… إنسانة مَرحة وصديقة مخلصة، وكثير من المُعتقلين في تلك الفترة كانت فامة هي من تتدبّر مصاريف بيوتهم وأحيانا تجمعُ لزوجات المعتقلين مصاريف علاجهنّ إن اقتضى الأمر. كانَت تقُوم بذلك بشغف ورغبة يندر العثور عليهما. تحرصُ على حضور المظاهرات الشبابية والوقفات الاحتجاجيّة ضدّ الظلم والاعتداء و”الحگرة” والاعتقال السّياسي والتّعسفي والإعدامات، وكلّ ما مارسه نظام الحسن الثاني من بشاعة.

تجمل زهرة أقري شهادتها قائلةً: “حين اشتدّت آلة القمع الطّاحنة، كان والدي ابراهيم أقري من الذين اعتقلوا في تلك الفترة، وسيّجت الأجهزة بيتنا وحيّنا بالشّرطة والمخبرين، ومنعت عنّا الزّيارات. ارتعبَ الجميع ولم يستطع أحد أن يقترب… لكن فامّة كانت تأتي بجلبابها والمنديل الذي فوق رأسها، وتدخل عفويًّا وبشكْل روتينيّ ولا تعير اهتماماً “للزائرين” الذين لم يكن مرحّبا بهم عندنا”.

يحكى أنّ المناضلة جميعة أزغار، تذكرت “جلاّبتين” خضراوتين وردتها هي وشقيقتها زهرة أزغار عن طريق المحامي لكي تتقدما أمام القاضي بشكل اعتباري ومحترم، وذلك بعدما جرّدهما “جهاز القمع”، كما يصفونه، من ملابسهما وترك لهما غطاء لتدثرا به الأجساد التي “تعرضت للتعذيب”، وفق هذه الرواية.

في مقال له، ينقل محمد نور الدين بن خديجة عن جميعة أزغار قولها: “بعد إيداعنا الزنزانة، حصلنا على (تريكو وصايا) من عند بعض المعتقلات، لكننا كنا نفكر كيف نتقدم للمحاكمة بهذه الملابس التي ليست على مقاسنا. حتى فوجئنا بالمحامي قبل الجلسة بيوم واحد يسلمنا كيسا بلاستيكا، وجدنا فيه جلابتين خضراوتين لم نعرف من أرسلهما لنا مع المحامي الذي لم يقل لنا بدوره عن الاسم”.

ثمّ تضيف: “كنا سعيدات جدًّا لأننا سنتقدم للمحكمة في هندام محترم. بعد إطلاق سراحنا مباشرة، زارتنا فاما في البيت وساعتها علمنا أنها هي من أرسلت لنا الجلابتين؛ ومن ثم تكررت زياراتها ولقاءاتنا، وكنا نعمل معا في استقطاب نساء الحي المحمدي ونناضل في قواعده”.

حصادُ رحلة جميلة!

كانت هذه… حكاية مي فامة التي ظلّت بدون مسكن إلى حدود بداية القرن الواحد والعشرين، إذ في بداية الألفية اقتنى لها أحد المناضلين شقّة بحي مرس السلطان لتقيم فيها السنوات الأخيرة من عمرها، وهناك روايات تقول برفضها القطعيّ بأن تسجّل الشقّة باسمها.

عاشت فامة وحيدة، ولم تستفد في حياتها من أية جهة بأية مساعدة تعينها على الحياة في آخر عمرها. ويقال إنّه، حتى الطلب الذي تقدمت به للحصُول على رخصة سيارة الأجرة، على غرار الكثيرين غيرها من المقاومين ضد المستعمر، لم تتم الاستجابة له أو التفاعل معه.

في نهاية حياتها، أصيبت بتصلب شريان الدماغ، وتسبب لها ذلك في شلل نصفي، خضعت على إثره للعلاج الذي لم يدم طويلاً. ظلت بمقامها إلى أن ترجّلت في 19 مارس 2004. رحلت حاملةً معها في “روحها” جزءا مهمًّا من تاريخ المغرب المعاصر…

كانت جنازتها فرصة ليخرج عبد الرحمن اليوسفي عن تواريه عن المشهد، فحضر في تشييع جنازتها بمعية أحمد بن جلون، الذي كان أمينا عاما لحزب الطليعة، وكذلك محمد بنسعيد أيت إيدر، الذي كان أمينا عاما لحزب اليسار الاشتراكي الموحد.

من بقايا أثرها الرمزيّ أنه تمت تسمية الثانوية الإعدادية المحادية لسوق درب غلف باسمها، كما تم إطلاق اسمها على المركز التابع للجمعية المغربية لحقوق الإنسان. قيد حياتها، تم إعلانها رئيسة شرفية للرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة، وظلّ اسمها ملازما لعديد من مراكز النجدة والاستماع للنساء.

قال فيها الشاعر محمد نور الدين بنخديجة، شعراً بليغاً:

امرأة نجمة
تجر قطار الليل
ولا تستريح…
امرأة نهر
ربما أم الربيع
أو سبو
أو ملوية
او نهر ليالي الرعب
والعشق
على مرأى الشهود ذبيح…
فاما
مهرجان ماء
يجتاز الجبال والسهول
والهضاب
ويسابق الريح…
فاما
بندقية كانت
أو جريدة
أو أما تحمل سلة المعتقل
للوطن السجين
أو الدمعة للشهيد
فاما
وتر منفرد
على قيثارة يردد
لحن الصمود
شجيا جريحا…

… هكذا هي مي فامة… امرأة مسكونة بهمّ الوطن. وطنٌ يتسع للجميع. وطنٌ يضمن الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعيّة للجميع. تضحك وتمرح مع السّعيد، وتبكي وتحزن مع التّعيس. حياة محدودة في الزمن، أعطت فيها كل شي دون أن تأخذ شيئا. فامة لم تكن سوى… أجمل الأمهات!

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *