في ذكرى وفاتها: مي فامة… حكاية أم روحيّة لليسار المغربي! 1 - Marayana - مرايانا
×
×

في ذكرى وفاتها: مي فامة… حكاية أم روحيّة لليسار المغربي! 1\2

هي امرأة من معدن مختلف، تفرّدت حتى في مقاومتها المبدئية والميدانية ضدّ الاستعمار. واختلفت في طريقة نضالها ضدّ “الرّجعية” والسّلطوية في سنوات الجمر والرّصاص. بل… وتميّزت حتّى في وقوفها ضدّ شتى أشكال الديكتاتوريّات داخل الحزب، الذي انتَمتْ إليه.

هكذا هي… “مي فامة”، قد تستدعي جهدا لغويّا فريداً وأنت تحاول البحث في القواميس المحدودة عن مرادفاتٍ لوصفها. لنقل هي امرأة قويّة روحاً وبدناً. مناضلة رمزٌ، أو امرأة خلقتْ لتكُون حرّة. وعلّ هذا القول يُلخّص شيئًا ما. شيءٌ من سيرة أو من حكاية امرأة استثنائيّة، ربّما، لا يمكنُ تلخيصُهما بدقّة في حروفٍ صمّاء وباردة. هي في النهاية… وحدها لغة.

مناضلة لغزٌ… فمن جهة، لا أحد يعرفُ حكايتها بدقّة وعلى نحو شموليّ، ومن جهة ثانية، حتى الجزء المعلوم من حياتها، والذي عايشه مناضلون وعرفوه فيها... لا يمكنُ أن نفيه حقّه في بعضٍ من اللغة. هكذا هي حياة “فامة”، أقواسٌ جميلة لامتناهيّة، حكاية بلا فواصل… وبلا نقط.

من الطّفولة إلى المقاومة…

طفولة فامة غير معروفة كثيراً. لكن الشائع أنها ولدت داخل أسرة محافظة ومقاومة للاستعمار الاسبانيّ. شفشاون مسقط رأسها، وربّما ذلك ما جعلها إنسانة عفوية نظراً لمجاورتها للأسواق الشّعبية بالشّمال.

بخصوص اسم “فامة” الذي اشتهرت به، وأصبح اسماً حركيًّا ملازما لها، فهناك روايتان: الأولى تقول بأنه راجعٌ إلى إلى خطإ ناجمٍ عن موظّف كان يشتغلُ لصالح الاستعمار، حيثُ أسقط حرف الطاء، سهواً أو جهلاً بنظام التسمية بالمنطقة، فكانت النتيجة “فامة” عوض “فاطمة”. أمّا الرواية الثانية، فهي تقول إنه فعلاً اسمها الحقيقي، واسم فامة شائع في المناطق الجبليّة بشمال المغرب. لكنّ اسمها في النهاية كان هو “فاطمة اعْزاير”، وهكذا تمّ تدوينه في آخر الحِكاية.

كان عمرها ستة عشر سنة (في رواية أخرى سبعة عشر) حينَ اقتحمت صفوف جيش التحرير. قيل إنها ناضلت ضدّ الاستعمار الإسباني في شمال المغرب بتطوان، وكذلك الفرنسي في الجنوب والاستعمار الدولي في طنجة… هناك من يعزو سبب التحاقها بجيش التحرير بضلوع المستعمر في اغتيال أحد أشقائها. في رواية أخرى، ورد أنّ القتل يتعلق بستة من أفراد عائلتها، وهم أخوالها وأعمامها الذين رشّهم أحد عملاء الاستعمار الاسباني بالرصاص.

حملت فامة السلاح، وكسّرت الصورة النمطية والأدوار التي كانت تعهد إلى النساء في المقاومة، على غرار مدّ المقاتلين بالطعام أو إخفاء الأسلحة. ولجت عوالم العمل الفدائي صغيرةً، وعرّضها ذلك لكلّ صُنوف التعذيب التي مارسها المستعمر على أعضاء الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة ضده. هناك شهادات لمناضلين سابقين في الاتحاد الوطني للقوات الشّعبية، يقولون إنها تعرضت لرمي بالرصاص أصاب ساقها، وظلّت معالم الإصابة واضحة.

وفق ما حكتهُ فامة شخصيًّا لزهرة أقري، فإنّ التحاقها بجيش التّحرير جاء غداة أن كانت تشتغلُ عند أحد المُقيمين المستوطنين.

تقول أقري في شهادة تخصّ بها مرايانا إن “هذا المستوطن كانت له رتبة رفيعة داخل أجهزة الأمن/ الجيش الاستعماري. ترصّدت به حتى استطاعت الظّفر بسِلاحه “الوظيفيّ”، وما ذكرته فامة خلال سردِها لما عاشته، في إحدى ليالي السّهر في بيتِنا، فإنّها غادرت منطقة ولادتها في تلكَ الليلة التي نُظّم فيها عُرسها، أي تركت الإعداد لحفل الزفاف وراء ظهرها وولّت وجهها شطر وجهة أخرى. منذُ ذلك الحين، لم تفكّر في الزّواج بعدها. لذلك، كانت تعتبر أبناء المغاربة كلّهم أبناءها”.

تجسّد مثالا حيًّا في التاريخ للاستِقامة الأخلاقيّة والمبدئيّة. ومما يحكى أنها كانت موغلة في الإيمان، وتؤدي الصلاة في وقتها. حسب مصادر مرايانا من داخل محيط فامة، فإنّ أول طقس تقوم به بمجرد ولوجها أي بيت، هو أن تقوم بالوضوء والصلاة ثمّ تبدأ الحديث حينها. لكن مدرسة اليسار صقلت فيها تلك الروح المتسامحة والمؤمنة بالاختلاف، لذلك كانت مُحبّة للآخر والحياة وكونيّة في أخلاقها.

بدايةُ الحكاية…

حين التحق جيش التّحرير بالقوات المسلّحة الملكية، بعد استقلال المغرب، عادت من أعلى الجبل، حيثُ كانت تخوض مقاومة مسلّحة ضدّ الاستعمار. استقرّت في البداية في منزل المقاوم بجيش التّحرير مبارك الورداني وزوجته الحاجّة بريكة، في درب الشّرفا بالدار البيضاء. كانت تتردّد كثيراً على بيت المناضل اليساريّ ابراهيم أقرّي بوشنتُوف.

حين وفدت للبيضَاء، لم تكُن تعرفُ كثيراً من النّاس، لذلك ظلت إقامتها محصورةً في البداية بين هذين البيتين، بل كانت تشكّل جزءاً حيويًّا داخل العائلتين.

التحقت حينها بحزب الاستقلال وأصبحت مناضلة فيه. لكنها، حسب افتتاحية العدد 44 من جريدة الاختيار الثوري – يناير 1980، سرعان ما تحولت إلى صف الذين بادروا “بالانتفاض على السياسة المتخاذلة التي أصبحت تقود الحزب وتكرس تفويت السيادة الوطنية والتحرر بمفهومه الاجتماعي الشامل، وكانت بذلك من المناضلات الأوليات في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”.

الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي تأسس سنة 1959، بعد انشقاقه عن حزب الاستقلال، كانت فامة من الذين وضعوا لبناته الأساسية إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة ومحمد الفقيه البصري. لذلك، في تلك الفترة، أصبحت ترتادُ كثيراً مقرّ الاتّحاد الوطني للقُوات الشّعبيّة وتقضي فيه معظم وقتها، سواء بمقر الكتابة العامة بزنقة علال بنعبد الله، أو مقر اللّجنة الإدارية، الذي استولى عليه حزب الاستقلال فيما بعد.

كانت مناضلة اتحاديّة بامتياز. وكان وجودها بمثابة إضافة نوعيّة للحزب. ولا أحد ينكر ما لعبته من دور محوريّ في النّقاش والتدافع الفِكري داخل الحزب، رغم أنها لا تقرأ ولا تكتب. لا أحد ينكر أيضاً كيف دافعت عن التّصورات الشعبيّة البسيطة… وكيف ساهمت بدورها في عمليّة الحشد والتّعبئة، إذ كانت لها طاقة فريدة في الحديث وتتمتّع بقدرة بليغة في الإقناع.

بفضل عفويّتها تلك وصدقها ذاك، ملكت”مي فامة” قلوب أغلب مناضلي ومناضلات الحزب في تلك الفترة الحالكة. لم يكن لها مسكن قار. لهذا، أصبحت منازل رفاقها ورفيقاتها جميعًا ملاذاً آمنًا لها، تدخلها بحبّ وبترحيبٍ وقبول قلّ نظيره… كانت تقول بلهجتها الشماليّة، وهي متجهة نحو بيت أحد المناضلين: غادية عند خُويْ، سولو فيّا ولادْ خُويْ، بغاتني خْتِي، نمشي عندْ مرات خُويْ…

من أشهر المناضلين في تاريخ الاتحاد، الذين كانت ترتاد بيوتهم بكثرة، حسب ما حكته زهرة أقري لمرايانا هناك: محمد الفقيه البصري والفقيه الفكيكي العور، وبوشعيب الحريري ومحمد علي الهواري وأيضاً عبد الرحمن اليوسفي… وغيرهم كثير.

تقول أقري: “حين كان يغادر اليُوسفي لفرنسا في ستينيّات القرن الماضي، كانت تؤنس والدته في بيتها وتفضّ وحدتها. كانت تقوم بهذه المُهمة الإنسانيّة هي ومليكة أقري”.

حين تأسّست نواة القطاع النسائي للحزب، الذي ساهمت فيه فامة تنظيراً وتطبيقاً، تعمّقت علاقتها مع المناضلات على وجه الخصوص. منهم فاطنة منصُور التي رحلت عنا مؤخّراً وخديجة المذكوري وفاطمة عنتر ومُناضلات أخريات.

جاء في العدد 44 من جريدة الاختيار الثوري، التي كانت تصدر من باريس: “يشهد الجميع بصمودها داخل “دار المقري” حيث قاست من ويلات التعذيب الوحشي، كما يعرف الكل تحدياتها للاستفزازات والاعتقالات التي استهدفتها باستمرار وشجاعتها في مواجهة رجال القمع أنفسهم”.

لكنّ بعض مصادر مرايانا تشير أنّها لم تتعرّض، طيلة مسارها خلال فترة الاستقلال، لا للسجن ولا التعذيب، ولم تحصل على أيّ تعويض من هيئة الإنصاف والمصالحة، عكس ما يذهب إليه الكثيرون. وهو ما أكده الكثير من محبي مي فاما.

في يناير 1975، حضر اسم فامة ضمن أعضاء المؤتمر الاستثنائي للحزب. وفي هذا المؤتمر جرى تغيير اسم الحزب، وتحول من “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” إلى “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”.

ويحكى عنها أنها في انتخابات 1977-1976، كانت تقصد النساء البسيطات في المناطق الشعبية، حتى أنها كانت تؤطر النساء داخل الحمام ولا تخرُج منه إلاّ وقد استقطبت عدداً كبيراً منهن لصالح القوى التقدمية في تلك الفترة.

في الجزء الثاني، نقتفي مزيداً من تفاصيل امرأة دونت اسمها في التاريخ المغربيّ… عن جدارة واستحقاق!

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *