من كندا. عبد الرحمان السعودي: لا مونديال من دون قبلات ݣوادلوبّي… - Marayana - مرايانا
×
×

من كندا. عبد الرحمان السعودي: لا مونديال من دون قبلات ݣوادلوبّي…

يتذكر أن قلبه كاد يتوقف حين زفت إليه خالته موافقة “مّي حادّة” على تنشيط الأجواء المونديالية رفقة باقي الجارات، حاملات للأعلام الوطنية، متسلحات بالدفوف والطعارج. أقسمت لها بأن الزغاريد سيصل صداها إلى مسامع اللاعبين في أمريكا مع كل هدف سيسجلونه في مرمى الخصوم. وزاد قلبه طمأنينة وعدُ خالته بتوفير المواد التموينية التي تتطلبها مشاهدة مباريات كرة القدم: في الوقت الذي سيشرب فيه رواد المقاهي القهوة الكحلة على قلبهم، ستقدم هي للمشجعات أطيب أنواع العصير، حتى أنها ستضحي بسطل حلوى كعب غزال محبوبة الجماهير.
سرت الفرحة في عروقه. لكن، للأسف، كان عمرها قصيرا لأن الأقدار اختصته بأكثر المفاجآت غما وعبثية.

لديه قدرة عجيبة على استعادة ذكريات طفولته البعيدة بتفاصيلها المملة. لكنه، مهما اعتصر ذاكرته، لا يتمكن من رسم ملامح محددة لوجه خالته رحمة. كان يربط ملامحها دائما بوجه شابة فاتنة بشعر أسود مصفوف كما تبدو نجمات السينما في أفلام السبعينات.

ظللت تلك الملامح غائمة في خياله، حتى رآها واضحة مجسدة على غلاف إحدى مجلات مشاهير هوليود الملقاة أمامه على المائدة في غرفة الانتظار لدى طبيب العيون. قرر دون تردد أن يسطو على المجلة، دسها خفية في حقيبته واعتبر نفسه فاعل خير خلص الطبيب من مجلة قديمة مهترئة لا تليق بمقام عيادته. ولمقاومة تأنيب الضمير، دفع مبلغا يفوق ثمن معاينة الطبيب ليبرئ ذمته قبل أن يغادر.

لم تسأل زوجته عن سر اصطحابه لمجلة عليها صورة نجمة هوليودية فاتنة، لأن نفس المشهد يتكرر كل مرة: يجري نحوها بلهفة، يضع بين يديها المجلة التي اشتراها أو استولى عليها بطرق مشبوهة، يشير إلى صورة الغلاف ويردد نفس العبارة وبلاهة الأطفال في عينيه: “شوفي شوفي… لقيت وحدة كتشبه لخالتي رحمة”. تحتفظ كالعادة بشتائمها، تتسلم المجلة “على وعدها وسعدها” وتضعها لتجاور أخواتها على رف المكتبة. تذكره بأنه لم ير خالته منذ ثمانية وعشرين سنة ولا فائدة ترجى من الجري وراء أغلفة المجلات لاستعادة صورتها، فقد فارقها في سن لا يحتفظ فيه المخ إلا بصور أبطال الرسوم المتحركة، ثم تنصحه بأن يبحث عن طبيب آخر للعيون.

يقول لنفسه لعله نسي ملامح خالته حقا، لكنه لم ينس ولن ينسى أبدا وقوفها إلى جانبه حين قرر تأسيس أول رابطة نسائية لتشجيع المنتخب المغربي في كأس العالم سنة 1994.

كانت خالته أول من اشترى تلفازا بالألوان في الحي كله، وكان بالنسبة للجارات بمثابة سينما مفتوحة لاستقبالهن مع شاي مجاني. يتذكر كيف كان يجري بسرعة مكوكية إلى الشرفة لمشاهدتهن يخرجن من باب بيت خالته، تتقدمهن الزعيمة “مّي حادّة”. يعدّهن كالعادة، ثلاثة وعشرون من النسوة وقد انتهين من مشاهدة حلقة جديدة من المسلسل المكسيكي “رهينة الماضي” أو “ݣوادلوبّي” كما يفضلن تسميته.

يتذكر كيف أثار شكوك خالته حين أصر على غير عادته وبشكل تطوعي على توزيع أكواب الشاي عليهن بنفسه، وحرص بشكل مبالغ فيه على الترحيب بهن بكلام معسول غريب عن لسانه الطويل. سعت خالته إلى معرفة ما يدور بداخل رأسه الصغير. قربته منها بابتسامة لطيفة وقالت له بصوت هامس وهي تعبث بخديه: “أش مخبّي عليا يا العفريت؟”. لم يطق كتمان سره طويلا، وصارحها بأن المونديال على الأبواب وبأنه يخطط لمتابعة مباريات المنتخب المغربي في بيتها وسط أجواء تشجيع حماسية شبيهة بما يراه في المقاهي التي كان أصغر وأفقر من أن يجلس عليها، فكان لا بد له من إتقان تمثيلية الطفل المؤدب المطيع حتى لا ترفض طلبه بدعوة جمهور “ݣوادلوبّي” إلى منزلها لمتابعة مباريات المنتخب المغربي، والبركة طبعا في “مّي حادّة” لخلق مناخ احتفالي يليق بمستوى الحدث وبسمعتها كنݣافة مخضرمة لا يشق لها غبار.

نظرت إليه خالته رحمة بابتسامة ود عريضة وقالت له بثقة: “صافي ضرب كل شي على حسابي!”، معلنة دعمها اللامشروط لإنجاح مخطط ابن أختها الأقرب إلى قلبها وأنيس وحدتها بعد ما هاجر زوجها للعمل بالخارج وتركها تواجه رتابة الحياة في عز شبابها. كيف لها أن ترفض طلبه وهي تدرك مدى تعلق قلبه بكرة القدم، المصدر الوحيد لسعادته، شغوف بها حد الجنون كسائر أقرانه، ليس لأنه موهوب في مداعبتها، بل لأنه لم يعرف غيرها منذ وعى على الدنيا، فهو ليس طفلا اسكندنافيا حتى يختار بين الذهاب إلى حديقة الأسماك لاكتشاف الشعب المرجانية الاستوائية أو قضاء الوقت بصحبة الساكسفون في الكونسرفاتوار. هو ابن جيل الكابتن ماجد، فتى الأحلام الأول، يظل يتخيل في صحوه ونومه بأنه رأس الحربة الذي سيتمكن من فك عقم الهجوم، ويقود المنتخب الوطني للظفر بكأس العالم.

يتذكر أن قلبه كاد يتوقف حين زفت إليه خالته موافقة “مّي حادّة” على تنشيط الأجواء المونديالية رفقة باقي الجارات، حاملات للأعلام الوطنية، متسلحات بالدفوف والطعارج. أقسمت لها بأن الزغاريد سيصل صداها إلى مسامع اللاعبين في أمريكا مع كل هدف سيسجلونه في مرمى الخصوم. وزاد قلبه طمأنينة وعدُ خالته بتوفير المواد التموينية التي تتطلبها مشاهدة مباريات كرة القدم: في الوقت الذي سيشرب فيه رواد المقاهي القهوة الكحلة على قلبهم، ستقدم هي للمشجعات أطيب أنواع العصير، حتى أنها ستضحي بسطل حلوى كعب غزال محبوبة الجماهير.

سرت الفرحة في عروقه. لكن، للأسف، كان عمرها قصيرا لأن الأقدار اختصته بأكثر المفاجآت غما وعبثية.

يتذكر بأنه حجز ليلتها لنفسه مكانا يحقق له أفضل رؤية لمشاهدة الحلقة المنتظرة من مسلسل “ݣوادلوبّي” وسط عدد غير مسبوق من المتفرجات، أكثر من ثلاثين جارة جئن لمتابعة أطوار الصلح بين العاشقين ݣوادلوبّي وألفريدو. وبدأت تراودهن قبل بدء الحلقة خيالات مشاهد القبل والأحضان الغرامية التي سيتبادلها الحبيبان بعد أكثر من عشر حلقات من الفراق والدموع… أما عن نفسه، فقد كان يستحضر قصص أمه ومروياتها عما أعده الله من العذاب الأليم للأطفال الذين لا يغمضون أعينهم في مشاهد القبلات.

انعدمت الحركة تماما، وصوب الجميع اهتمامه وتركيزه نحو شاشة التلفاز، ولم يعد يتردد في الفضاء إلا العبارات الرومانسية التي كان يتفوه بها الوسيم ألفريدو. لكنه، كلما تغزل بحبيبته ݣوادلوبّي واقترب منها ليقبلها، تدخل مقص الرقابة وحذف مشهد تلاقي الشفاه ليبدو المسكين وكأنه ينطحها… تكرر مشهد التناطح طوال الحلقة وسط ذهول وسخط النسوة على تطفل ذلك المقص اللعين الذي أفرغ المسلسل من معناه وأفقد مّي حادّة صوابها، لتصرخ بأعلى صوتها وهي تتف بغلّ على التلفاز احتجاجا على هذه المجزرة الدرامية: “الله يلعن جد باباكم الكلب… هربنا من النطيح فالدار، خرج لِنا النطيح فالتلفزة… اعطيوني جلابيتي نمشي نـقــ… فحالي” واحتج باقي النسوة على ذلك العدوان الغاشم بألفاظ كان معظمها بذيئا قبل أن ينسحبن الواحدة تلو الأخرى.

قاطع النسوة بعد ذلك مشاهدة المسلسل، واختفى مشهد الجمهور المونديالي من حياته…

يتذكر أنه لم يفهم تهرب خالته من الاستفاضة في شرح الإحباط الشديد الذي أصابهن وجعلهن يقاطعن المسلسل المكسيكي. لكنه، حين كبر، أدرك أن “ݣوادلوبّي” كان أكثر من مجرد مسلسل بالنسبة إليهن، إنه الحوض الذي يروي عطشهن للرومانسية التي افتقدنها في بيوتهن، ولا أدل على ذلك من المقولة الشهيرة المأثورة لمّي حادّة في كل يوم وهي تستعد للرجوع إلى بيتها مع نهاية كل حلقة: “صافي سالا وقت ألفريدو… دابا نمشي نشوف كرّيطو”؛ كناية عن زوجها الفظ العصبي الذي لم تعد تنطق اسمه إلا مصحوبا بلقب كرّيط.

بدء العد التنازلي لانطلاقة المونديال… سأل خالته بصوت مبحوح مزدحم الدمع إن كان هناك أمل في تجمع الرابطة النسائية لتشجيع المنتخب في المونديال. اعتصمت بالصمت ومسحت على رأسه بمودة ثم منحته قبلة وحضنا ووعدته بأنها ستجد حلا.

لا يدري حتى يومنا هذا من أين اشترت خالته رحمة مجموعة شرائط الفيديو لكل حلقات مسلسل “ݣوادلوبّي”، كاملة القبلات مكتملة الأحضان مع رفاهية إعادة الحلقات. لكنه علم من أين تحصلت على المال لشراء جهاز الفيديو ومجموعة الكاسيط حين لاحظ اختفاء السلسلة الذهبية السميكة التي كانت تزين صدرها. انتشر الخبر كالنار في الهشيم بين الجارات اللاتي بدأن يسألن عن موعد استعادة طقس المشاهدة الجماعية، ويقال بأن مّي حادّة أطلقت أطول زغرودة في مشوارها الفني بعد سماع الخبر السعيد.

25 يونيو 1994، سيظل يحمل معه إلى الأبد ذكرى ذلك اليوم البهيج الصاخب بالأهازيج الممزوجة بالزغاريد احتفاء بالمنتخب الوطني. غمرته دفقة الفرح وهتف بفخر “ديما مغرب”، وحملته خالته على كتفيها ليستمتع بمشهد بانورامي لصديقاتها وهن يرقصن بملحمية مدهشة ويشجعن المنتخب وكأنهن يقمن بمهمة رسمية.

 

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *