الفقهاء بالمغرب: هل أوشكت سرديّة الفقه الديني على “نهايتها”… التاريخيّة؟ 1 - Marayana - مرايانا
×
×

الفقهاء بالمغرب: هل أوشكت سرديّة الفقه الديني على “نهايتها”… التاريخيّة؟ 1\2

يبدو لوهلة أنّ مواقع التواصل الاجتماعي كشفت عن جيل مُخترق بأسئلة غزيرة حول الله والوجود وماهيّة الكون وأصله، إلخ… فهل أدّى ذلك إلى اصطدامهم، فكريًّا، مع مؤسسة فقهيّة ترفض كلّ هذه الأسئلة بالمطلق وتحرّمها؟
ما هي وضعية الفقهاء اليوم، إزاء إنسان معاصر متخم بالأنسنة، ولم يعد لديه استعداد لقبول أجوبة جاهزة؟
… هل “انتهى” فعلاً دور الفقهاء كشرط اجتماعيّ وتاريخيّ؟

في هذا الملف، تقفُ مرايانا على مقولة متداولة، مفادها تراجعٌ في إدارة الفُقهاء للشّأن المجتمعيّ. وننظر للمسألة من زاويّة السيميائيات، للوقوف على قيمة خطاب الفقهاء اليوم بالمغرب؛ إضافة إلى زوايا أخرى: سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الدين، بمشاركة باحثين في الفكر الإسلاميّ، بغاية محاصرة الموضوع من جوانب مختلفة.

سعيد بنگراد: لا حاجة للمغاربة بخطاب الفقهاء اليوم

يستهلّ السيميائيّ سعيد بنگراد حديثه لمرايانا معتبراً أنّه لا يمكن الاحتكام إلى ما تكشفه الشّبكات الرقمية، لأن “المبحرين في الافتراضيّ يبحثون في الغالب عن بعضهم البعض، عن الذين يشبهونهم في الرأي والمعتقد والميولات. ويعرف الساهرون على الخوارزميات ذلك جيداً، فهذه المعادلات الرياضية تقترح على المبحر ما يريد، وتلقي إليه بحبّات إغراء تقوده دائما إلى غايته وما يبحث عنه”.

لهذا السبب، يبدو للعلمانيين أن المغرب كله أصبح علمانيًّا، وأن العلم انتصر على الدين، وأن المجتمع تخلّص من كل الإكراهات؛ ويعتقد اليساريّون أن الآلاف من الشباب يتهافتون للالتحاق بصفُوف القوى التّقدمية؛ يبنما يعتقد رجال الدّين ومن والاهم أن الشّباب يلتحقون زرافات ووحدانا بالمساجد ودور العبادة في كل أرجاء البلاد، وأن الدين عاد بقوة إلى الفضاء العمومي. هذه هي الطبيعة الحقيقية لفضاء لا يحتكم إلى مصافي، ولا تحكمه قاعدة تفكير منطقي. إنه يوهم كل فرد أنه هو المركز، وأنّ الآخرين معه، يقول بنگراد.

بالعودة إلى الفقيه، نجد أنّ ما يجهله، أو يتغاضى عنه، أنّ ما يوحّدنا حقّا ليس الإيمان بفكرة واحدة، بل يوحّدنا القبول بالتعدد في سلوكنا ورؤانا، فذاك ما يكشف عن الغنى فينا وفي الآخرين وفي الطّبيعة التي تحيط بنا. يستدل السّيميائي بفولتير الذي يقول: “العقل الذي يفرض حقيقته بالقوة، عقل مريض لا يعرف عن الحقيقة أيّ شيء”.

هذا الأمر يجعلنا، كما يفسر بنگراد، نعاين أنّ الفقيه قد يكون متسامحا مع اليهودي أو المسيحي، ولكنه لا يتسامح مع من ولد مسلما وأراد تغيير دينه، أو مع من يتهاون في ممارسة الشعائر، أو من يريد التخلي عن كل الأديان. إن التسامح موّجه إلى الآخر.

ولذلك نحتت المدنية الحديثة في شقها العلماني مفهوم الاختلاف، أي الحق في أن يكون المرء كما يريد خارج منطوق النصوص أو مضمراتها. الاختلاف يحميه القانون، أما التسامح فعرفيّ، يعود إلى تربية الأفراد وثقافتهم، وإلى درجة التحضر عندهم، وإلى قدرتهم على بلورة صيغ للعيش المشترك ليست متضمنة في بنود أي دستور مدني.

علينا أن ندرك أنّه ليست تلكَ حالة الفقيه. “إنه لا يفكّر، إنه مكلف بتطبيق نصوص يعتقد هو في صلاحيتها وفي قدرتها على تغطية جميع ما يمكن أن يصدر عن الإنسان. عندما يغلق المرء على نفسه في زجاجة، لن يكون بمقدوره رؤية العالم بحياد وموضوعية. إن الفقيه لا يُعلم المؤمنين كيف يفكرون، إنه يذكرهم بما تقوله النّصوص عن سلوكهم في الفضاء العام والخاص. من العَجب أن نرى فيديوهات انتشرت مؤخرا في الفضاء الافتراضي، متخصصة في الجنس وطريقة ممارسته وما يجوز منه في الإسلام وما لا يجوز”.

يستحضر بنگراد السبب الذي جعل الفقيه نقيضًا للمثقف، وهو أن الفقيه يقتات من جهل العامّة، إنه يفكر مكانهم استنادا إلى حقائق توجد في نصوص لا يأتيها الباطل من كل الجهات، أما المثقف فيدعو الناس إلى الاختيار الحر، أي يدعو الناس إلى التفكير. الفقيه في حاجة إلى جهل الناس لكي يستمر في القيام بمهمته. لذلك، كان “الاجتهاد” حكراً على فئة قليلة من الفُقهاء، قد توكل جزءا من صلاحيّاتها لفئة أقل درجة، ولكنها ستظل هي المتحكم في تفكير الناس وفي طريقة حياتهم وموتهم.

لا يتردد بنگراد في القول إنه لا حاجة للناس في النظام الديموقراطي إلى الفقهاء، إنهم في حاجة إلى قوانين تحميهم وتحمي مصالحهم، أي ما يسهر على تنظم العلاقات الممكنة والمحتملة بينهم ضمن فضاء ليس ملكا لجهة بعينها. فهذا الفضاء، بحكم حياده، يحتضن كل الأفكار والعقائد.

سر موقف الفقهاء من العلمانية يكمن هنا، فهم لا يعادونها لأنّها ضد الدين، فهم يعرفون أنها هي ما يحمي الدين وتحمي إيمان الناس بما يشاؤون، إنهم ضدها لأنها تخرجهم من الفضاء الاجتماعي. فمن حق المؤمن أن يذهب إلى المسجد بحثا عن سؤال يخصه وحده، ولا شأن للمجتمع أو الآخرين به. من حق المؤمن أن يحرّم على نفسه أو يحل ما يشاء، ولكن ضمن فضائه الخاص، ووفق ما تبيحه القوانين الوضعيّة.

كخلاصة، يجمل بنگراد أنه لا وجود للدين في الشارع، فالناس يسعون داخله وفق ما تقوله قوانين الدّولة، وهي ليست مستمدة من الشّريعة، في التجارة والبيع والشراء وحركيّة رؤوس الأموال.

هكذا، يكون الدين في المساجد، ومن حق المؤمنين على الدولة أن تحمي مساجدهم. لكن، لا حقّ لهم في دعوتها إلى محاربة السّلوك الفرديّ الذي لا يلتزم بالدّين ولكنه يحترم القانون. قد نكون حقًّا في حاجة إلى دين يحمينا من إغراءات النفس الأمَّارة بالخير أو بالسوء، فهو ضمانة للطّمأنينة والرّاحة النفسية، ولكننا في حاجة إلى قانون يحمينا من جرائم الحق المدني في… المقام الأوّل.

ياسين أجانا: الفقهاء يجسدون تدينًا بيريوقراطيّا

ياسين أجانا، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الانسانية المحمدية-جامعة الحسن الثاني، يرى أنّ تديّن المغاربة مختلف بين القرى والبوادي والمدن. بل، حتى داخل المدن، هناك تباين بين أحياء شعبية وأخرى راقيّة، أو بين الفئات العمرية من شباب وراشدين وشيوخ. هذا يعني أن التديّن في المغرب عموما ليس واحدا، لذلك تجدر مقاربته وفق قالب المُتنوّع.

رجال الدين أيضا يختلفون؛ فثمّة الفقيه الرّسمي الكلاسيكي، وهناك الفقيه الحركي “المُسيّس”، ويوجد رجل الدّين المتنوّر المُعَولَم، أو ما يصطلح عليه في الأدبيّات اليومية: الداعيّة الجديد.

بناء على هذه التوطئة، يريد أجانا في حديثه مع مرايانا، أن يوضّح أنّ أدوار الفقيه تتأرجح أهميتها وفق البيئة المجتمعية ومدى حضُور الديني في اليومي، كما أنّ استدعَاء الفقيه للمُساءلة السوسيولوجيّة، يبقى رهيناً بمُراعاة تعقّد المشهد الدّيني المغربي وضرورة مقاربته بصيغة المتعدّد.

نبّهنا أحد الأنتروبولوجيين، يقول أجانا، إلى أنّ الإسلام إسلامات… ليس فقط بين دولة وأخرى أو ثقافة ونظيرتها، بل أيضًا داخل المجتمع الواحد.

اليوم، المجتمع يعجّ بكلّ أنماط الشّباب، الذي خلق صيغ تديّنه الخاصّة أو قام بترميقها في تجاوز واضح للفاعل الديني. هناك المتدين (الشيعي، السني، المتصوف، المسيحي، اليهودي…)، وثمّة الملحد، اللاديني، اللاأدري، إلخ. ورجل الدين في المغرب عليه أن يفكّر في وضع تصوّرات تُراعي مبدأ التّعددية.

الفقيه الذي انحصر في فكر ماضوي، يعطّل عمليّة بناء مجتمع حديث يحتضن كلّ هذا الشّباب. والواقع، جدليًّا، لم يعد يقبل أيّ إقصاء أو تمييز. وبناء الدولة الحديثة قد يحتاج، طبعًا، لسنوات لبلورة تصور من هذا النوع، سيما ما دمنا محاصرين بآفة أدلجة الدّيني.

المعضلة التي يواجهها جزء من الفقهاء، وفق أجانا، أنّهم لازالوا يتعاملون مع الدّين بشكل انتقائي، ولازالوا يحاولون بسط سرديّة واحدة ويعملون على احتكارها.

إلاّ أنّ “المُلاحظة لتوظيف الدّين كشفَت أنّ تلك الانتقائية في حدّ ذاتها غير واضحة وغير متناغمة، وفي كلّ مرحلة سياسيّة محدّدة تبدو المؤسّسة الفِقهية وكأنها تحمل شعارات معيّنة لغاية ما! يحاول الفقهاء، فيها، تطويع النّص واستنطاقه لتبئير مقولات تخدم الظّرفيّة والسّياق دون غيرهما”.

يضيف الباحث أنّ هذا الوضع أدى بالفُقهاء إلى “برقرطة” الحقل الدّيني، أي جعلوا منه جهازاً بيريوقراطيًّا. لكنّه أخذ من البيروقراطيّة شكلها السلبيّ المتعلق بالإغراق في المساطر والإغراق في الاحتكام إلى بعض القواعد الجافّة، وعدم السّعي وراء روح التشريع.

صار الفقيه داخل هذه البرقرطة كائناً طقوسانيًّا، يؤدي دوراُ ميكانيكيًّا في إعادة الإنتاج والحثّ على أداء مجموعة من الشعائر المُقالِ عنها دينيّة. وغَدَا غير قادر على الابتكار.

كما أنّ هذه الطقوسية أدخلت رجال الدين في بوتقة توتّر بينهم وبين واقع اليوم والتّساؤلات المطروحة والإشكالات المعاصرة التي وجبَ عليهم معالجتها، فخلق ذلك كثيراً من التناقض والتّلاعب بين ما يخصّ المعتقد والممارسة لدى الفاعل الديني، مثلاً من ناحيّة القُروض البنكيّة.

مأزق كثير من الفقهاء المغاربة أنّهم ظلوا يطاردون نموذجًا متخيّلا يتّصل بالتّجربة الإسلامية الأولى، بمعنى أن جزءا منهم يطلب من الشّباب أن يعيش مثلما عاش الرّسول والصّحابة.

إنها عملية تهيِّئ مؤمني الغد دون أن تُترك لهم فرصة أن يختارُوا أنفسَهم. وهذا لا ينفرد به الفقهاء، بل أيضًا المقرّرات الدراسية لما يسمى بالتّربية الإسلاميّة تلعب دورا واضحا في هذا السياق.

الخلاصة هنا، أنّ مؤسّسة الفقيه، الرّسمية بالخصوص، إن لم تستوعب الديني من خارج الديني، أي أن تفهم الدّيني بالنّظر إلى الاجتماعي، وإن لم تُطور من مكنزماتها في استدماج عدد من المقولات التي تمكنها من الانخراط بفاعليّة في مجتمعات اليوم بكلّ رهاناتها، فسوف تهمّش نفسها تلقائيًّا.

بالتدريج، إذا لم يعترف الفقيه أنه لم يعد الوحيد الذي يحتكر سلطة المعنى، فسوف يجد ثقته ومشروعيّته تنهار في وجه أسئلة المؤمنين. وسيصبح رجل الدين، حينها، مجرد أثاث، ومجرد بروتوكولات… لا قيمة لها!

في الجزء الثاني نرصد رأي باحث في الفكر الدّيني الإسلاميّ، ورأي باحث في أنثروبولوجيا الدين.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

  1. محمد

    هضرة بنكراد تنطبق بالضبط على الكنيسة في فرنسا.

  2. ABDELLATIF

    لست ادري كيف تسمح لنفسك بان تنعت الفقيه بالنسان الذي يطبق ما راكمه من معرفة، و انت كذلك راكمت شيء من المعرفة و لكنها معرفة محدودة لكونك اطلقت على نفسك صفة الاستاذذذالذي يعطي الدروس التيي تلقااا هو كذلك في حياته الدراسية. الدين هو المجتمع اما ما تسميه العقلانية التي تنشذ الاحاد فهذا امر فيه كلام .

اترك رداً على محمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *