ناجي العلي… “حنظلةٌ” في فمّ الاحتِلال الصهيوني والدّيكتاتُوريات العربية… - Marayana - مرايانا
×
×

ناجي العلي… “حنظلةٌ” في فمّ الاحتِلال الصهيوني والدّيكتاتُوريات العربية…

إلى اليوم، لازال الملفّ غامضاً، ولازالت السيناريوهات غير مثبتة، إذ وجهت أصابع الاتهام في الضلوع في قتله إلى “الموساد” الإسرائيلي، وإلى أطراف فلسطينية، أو أي نظام عربي قد تكون بلاغة ناجي البصرية أثارت حنقه…

“مهمتي أن أتحدث بصوت الناس، شعبي في المخيمات في مصر والجزائر، وباسم العرب البسطاء في المنطقة كلها والذين لا منافذ كثيرة لديهم للتعبير عن وجهة نظرهم”… هكذا تحدّث الرسام الفلسطينيّ ناجي العلي!

لكن… هل كان يعلمُ أنّ ثمن ذلك رصاصتان في أحد شوارع لندن، في “المنفى” بعيداً عن أرض الوطن؟

بالفعل، كان يدري أنّه يسير على شَفير المَوت، وكان يعي أنّ الغدر “أصيلٌ” في مِنطقة الشّرق الأوسَط، بعد دُخول إسرائيل إليه وتحَالف بعض الأنظمة العربية معها…

كان يقول: “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرّف حاله: ميت”.

تلك كانت نبوءته بأن موعده قد حان، ليدفع حياته ثمن أن يكون حنظلةً مرّة في أفواه الاحتلال الصهيوني والأنظمة الاستبدادية… فهم منذ البداية، أنّهم قرّروا له أن يلتَحق، مغدُوراً، بمُكتشفهِ غسان كنَفاني.

من هو ناجي العلي؟ وما هي قيمة شخصية حنظلة الشهيرة في أعماله؟

ناجي العلي في نبذة!

لعلّهُ من الصّعب تحديد تاريخ دقيق لمولد الرّسام الفلسطيني ناجي العلي، لكنّ الباحثين قدّروا أنّ صرخته الأولى كانَت عام 1936، بقرية “الشجرة”، الواقعة بين الناصرة وطبريا في الجليل الشمالي من فلسطين. [1]

تربى ناجي العلي في كنفِ أسرة فقيرة تعمل في الزراعة والأرض.

من الأحداث التي طبعت حياته، تهجيره من فلسطين رفقة عائلته سنة 1948، أي سَنة النّكبة الفلسطينية، لينزح مع عائلته وأهل قريته نحو لبنان. [2]

على حين غرّة، خرجت من المسدس رصاصتان، أصابت إحداهما عنقه، فيما اخترقتِ الثانية أسفل عينه اليمنى. غاب عن الوعي في حينه، واستمر في غيبوبته زهاء الـ37 يوماً، حتى أُعلنت وفاته رسميا في 29 غشت، من نفس العام.

عاش وعائلته لفترةٍ في مخيم عين الحلوة شرق مدينة صيدا، وتجرّع مرارة الذّل عبر العيش في المخيمات، ما أدى به إلى الرّفض والمُمانعة باكراً، واتّقد شعوره الوطنيّ والإحساس بالحَيف والظّلم. [3]

في غضون ذلك، أصرّ والده أن يدخل ابنه مدرسة “اتحاد الكنائس المسيحية”، حتى حصل على شهادة منها، إلاّ أنّ صعوبة الظروف لم تسمح له بإتمام دراسته، فاتجه نحو العمل في البساتين.

ذهبَ بعد ذَلك إلى طرابلس، وحصل هناك على شهادة ميكانيكا السيارات. لكنّه ما لبث أن التحق بالأكاديمية اللبنانية عام 1960 ليكتسب فيها ملكات الرّسم بعُمق.

لعب الأديب الفلسطيني، غسان كنفاني، دور “المِنصّة” التي سيطّل عبرها ناجي العلي على العَالم، وذلك بعد أنْ نشر له، سنة 1961، ثلاثة أعمال في مجلة “الحرية” اليسارية الفلسطينية.

في عام 1963، انتقل الى الكويت وظل يرسم كاريكاتيرات لاذعة، قام باستعمالها لهجاء التطبيع مع إسرائيل وانتهازية بعض الشخصيات بمنظمة التحرير الفلسطينية، ونشرت أعماله في عدد من الصّحف على مدى إحدى عشرة سنة.

في عام 1974،عاد إلى لبنان وشهد الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي عام 1982، وتعرّض للاعتقال من طرف الاحتلال الصهيوني في صيدا.

عاد إلى الكويت سنة 1983، وتعرّض لمضايقات جمّة حين استقرّ عمله في وظيفة دائمة داخل جريدة “القبس” الكويتية. تعرض لضغوط كثيرة، وعشية اشتداد الوضع، بفعل الرقابة، ولى وجهه شطر لندن ليرسم للطبعة الدولية من صحيفة “القبس”. [4]

حَنظلة… الأيقونة الكُبرى لناجي العلي!

باتت جميع رسومات ناجي العلي في فترة من حياته، وعلى امتداد أكثر من عشرين عاماً، لا تخلو من أشهر شخصية كاريكاتورية في العالم “العربي”: شخصيةُ “حنظلة” التي تمثل غلاماً في العاشرة من عمره، كرمز للفلسطيني المعذب والقوي والمقهور والصّامد في الآن ذاته.

كان حنظلة شاهداً على كل النزيف الإنسانيّ في الشرق الأوسط، يقفُ متفرّجاً عن كثب، لا يهادن ولا يخشى أحداً و”غير مكترث”… أدار ظهره للعالم ويداه خلف ظهره، ووقف يراقب ما يجري مستشرفاً آفاق المستقبل.

وجد ناجي نفسه وحيداً في وجه أنظمة متوحّشة وشرسة من طينة الاحتلال الصّهيوني، إلى جانب سخط الكثيرين عليه، فحتى أولئك الذين انتمى إليهم في زمن ما، لم تستثنهم ريشته لمّا مسّتهم رياح الانتهازية. لقد هاجم جورج حبش ونايف حواتمة وياسر عرفات… وكلّ من كان لديه ميل  للخنوع وتغيير برامجه.

يذهبُ كثيرون إلى ربط “حنظَلة” بناجي العلي شخصياً، وبلحظة اقتلاعه من أرضه، وهو في العاشرة من عمره. لذلك، تم اعتبار حنظلة أسمى تعبير عن حياة العلي وإعلان رفضه المطلق للهزائم التي كانت تجترّ أذيالها الأنظمة العربية، ناهيك عن الظّلم والقهر داخل الدّول العربية الاستِبدادية.

لم يكُن حنظَلة مجرّد توقيع أو تعليق إضافيّ على الرّسم أو على التعليق الأساسيّ، بل كان بالأصحّ احتجاجاً، لحظة نقاء سياسيّ في بحر الأحداث والمساومات المستمرّة، كأنّه بإدارة ظهره يشاركُ القارئ موقعه في النظر إلى الرسم ذاته، وهذه لحظة تماهٍ أخرى بين رسم ناجي وقارئه، وهذا يفسّر الاهتمام الذي ناله حنظلة من القارئ، أو من الذين كتبوا عنه”. [5]

كان حنظلة يتحوّل في كثير من الرّسوم إلى شخصٍ فاعل، يعلّق على الأحداث بإيماءة جسدية معبّرة، كأن يتناول حجراً ويرميه.

حنظلة لم يرد منه العلي أن يكون مجرّد طفل شرّد من وطنه فحسب، إلاّ أنه سعى إلى جعله عنصراً فنيًّا أراد منهُ ناجي أن يحافظ على حلم العودة، وأن يكون شوكةً توخز الضمير الفردي والجمعيّ.

هكذا، كانت شخصيةُ حنظلة أيقونة عضّدت معنى الصمود لدى ناجي العلي. كانت شعلة روحية تقِيه من السّقوط والتكاسل والمهادنة.

رغم كل التهديدات التي تلقاها بالقتل، إلاّ أنه، من خلال حنظلة، يبرز أنه ليس متوجّسا من الموت، بل خوفه المطلق… أن يغفو أو يتراجع أو يُهمل واجبه.

أرادَ أن يجعلَ من حنظلة ماءً مرًّا في أفواه كل الخَانعين والخائنين والمهرولين نحو مُصافحة العدو الإسرائيلي الغَاشم. أراد أن يجعل منه ماءَ وجهٍ، بالنسبة للأوفياء والصامدين والسّاعين إلى تحرير الوطَن.

عن “حنظلة” يقول ناجي: “ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين، سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء”. [6]

أما عن سبب عقد يديه، فيقول ناجي العلي: “كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع”. [7]

حين سُئل ناجي عن الوقت الذي سيرى فيه العالم وجه “حنظلة”، كان جوابه: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.

في كل الأحوال، حنظلة، كما قال عنه ناجي العلي، لم يكن إلاّ “الأيقونة التي تمثل الانهزام والضّعف في الأنظمة العربية”.

إلى جانب حنظلة، شكلت شخصيات أخرى  نسقا أيقونيا في تجربة العلي…

من بين هذه الشخصيات، فاطمة التي تحاكي نموذج المرأة الفلسطينية القوية والغاضبة التي لا تهادن، رؤاها شديدة الوضوح حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.

ناجي… المُعارض للجَميع!

بالعودة إلى أعمال ناجي العلي، نرى بوضوح أنّه مسّ الكثيرين في رسومه… من الدول إلى الأحزاب، إلى الهيئات السياسية، إلى العديد من الشخصيات السياسية، فهذا الرسام لم يكن، في دفاعه عن قضيّته، يحسبُ أي حِساب لأي جِهة، ولأي قوة، ولم يكن يرى التّكتيكات والمناورات السياسية إلا تنازُلات وتفريطاً. فهو ظلّ يحلم بالقضية في نصَاعتها كما كانت عام 1948، وفي نقَاء الحقّ الفلسطيني الذي لا يُنازع”. [8]

سعت رسومات ناجي العلي أن تحرق بنارها الأنظمة الديكتاتورية ورجال المخابرات والقيادات المستسلمة. سعت أن ترسل نيرانها على الطوائف والطائفية، على تضليل الإعلام، على تهاون المثقفين، على القمع في كلّ بلدانه، وأيضاً على الوضع الفلسطيني الداخلي، على التحزب الضيق، على الصراعات الفلسطينية، على نزعة الهيمنة على القرار، على الميل للمساومة، على القابلين بالقرارات الخاصة بفلسطين، على المفرطين والباحثين عن أي مقعد في قطار التسوية… وأدى ذلك إلى مناصبته العداء أضعافاً من طرف الجميع [9].

حين سُئل ناجي عن الوقت الذي سيرى فيه العالم وجه “حنظلة”، كان جوابه: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.

وجد ناجي نفسه وحيداً في وجه أنظمة متوحّشة وشرسة من طينة الاحتلال الصّهيوني، إلى جانب سخط الكثيرين عليه، فحتى أولئك الذين انتمى إليهم في زمن ما، لم تستثنهم ريشته لمّا مسّتهم رياح الانتهازية. لقد هاجم جورج حبش ونايف حواتمة وياسر عرفات… وكلّ من كان لديه ميل  للخنوع وتغيير برامجه.

انتقد بشَكل لاذع الجبهة الشعبية حين رسم عيادة وكتب فوقها: عيادة الجبهة الشعبية للأمراض التنازلية، وكتب أسفلها اسأل مجرب لا تسأل “حكيم”. [10]

اتخذت رسوماته شكلاً تحريضياً وتثويرياً في كثير من المحطّات.

لكلّ ذلك… تمّ إصدار قرار إنهاء حياته لكي يخرسَ صوته التشكيلي.

كان وقت ظهيرة حينها، وكان التاريخ يصادف الثاني والعشرين من يوليوز من عام 1987.

في منطقة نايتس بريدج، وسط لندن، وتحديداً في شارع آيفز. كان ناجي العلي يتمشى متثاقلاً بخطواته متّجها إلى مكتب جريدة “القبس” الكويتية.

على حين غرّة، خرجت من المسدس رصاصتان، أصابت إحداهما عنقه، فيما اخترقتِ الثانية أسفل عينه اليمنى. غاب عن الوعي في حينه، واستمر في غيبوبته زهاء الـ37 يوماً، حتى أُعلنت وفاته رسميا في 29 غشت، من نفس العام.

إلى اليوم، لازال الملفّ غامضاً، ولازالت السيناريوهات غير مثبتة، إذ وجهت أصابع الاتهام في الضلوع في قتله إلى “الموساد” الإسرائيلي، وإلى أطراف فلسطينية، أو أي نظام عربي قد تكون بلاغة ناجي البصرية أثارت حنقه.

في النّهاية، كان ناجي العلي واضِحاً صريحا… لم يخفِ مواقِفه من السّياسات الإسرائيلية ولا من سياسَات الأنظِمة العَربية الاستبدادية وقتذاك…

لكنّ الذين اغتالوه يتّسمون بالضّعف والخَوف المطلق من الأقلام والفنّ والممانعة بالكتابة والتّشكِيل.

… لم يكن قتلَة ناجي العلي سوى مجرّد خفافيش، يسبحُون في الظلام، ويدبّرون في الظلام، وينفّذون في الظّلام… وُصفوا مراراً بالجُبناء، لأنّهم أكّدوا أنّ الاحتجاج، ولو كان “ناعماً”، لا يهدأ، بالنّسبة إليهِم، سِوى… بالقتل والمزيد من الرصّاص!

قتلوه… ولكن، هل تخلصوا من زهاء الأربعين ألف رسم التي لازالت تعبّر عن الفظَاعات في تارِيخ المِنطقة ومجَازر الاحتِلال الصّهيوني؟

هيهات!

نماذج لأعمال ناجي العلي:


هوامش:

[1] سليمان الشيخ، “فنان الكاريكاتير ناجي العلي”، مجلة العربي الكويتية، العدد 297 غشت 1983.

[2] أروى محمود، الكاريكاتير في الصّحافة العربية: كاريكاتير ناجي العلي أنموذجا.

[3]  المرجع نفسه

[4] نفسه.

[5] سليم النجار، نضال القاسم، أحمد أبو سليم، ناجي العلي – نبض لم يزل فينا، دار البيروني، الأردن، 2012.

[6] المرجع نفسه.

[7] نفسه.

[8] نفسه.

[9] نفسه.

[10] نفسه.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

  1. Ayman

    مقال رائع

  2. Hicham

    جميل جدا

  3. Fatima

    مقا لات تتير الا هتمام

  4. Hamza

    مقال جيد

  5. صلاح الدين العلمي

    شكرا على الخدمة التي تقدمونها

  6. zakaria

    تبارك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *