عن التزامن: حين يُعجز الإنسانُ العلمَ! 2/2 - Marayana - مرايانا
×
×

عن التزامن: حين يُعجز الإنسانُ العلمَ! 2/2

ابتداءً من القرن الـ17، غيّر العلم الميكانيكي نظرة الأشخاص التي كانوا يحملونها داخلهم بصورة لا واعية إلى العالم وأنزلت تصوراتهم القديمة إلى درك الخرافات المحضة… بيد أن التزامن وضع نظرتنا هذه التي صارت اعتيادية إلى العالم على المحك، بل ويتحداها…

يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: “أن نعزو نية للمصادفة هي فكرة، إما أن تكون في غاية السخف ومجافاة العقل، أو أن تكون عمق العمق؛ تبعا للطريقة التي نفهمها بها”.

ابتداءً من القرن الـ17، كما رأينا في الجزء الأول، غيّر العلم الميكانيكي نظرة الأشخاص التي كانوا يحملونها داخلهم بصورة لا واعية إلى العالم… كانت نتائج هذا العلم باهرة، لكنها أطاحت بما كان يحسه الفرد من انتماء إلى الكون وارتباط به، وأنزلت تصوراته القديمة إلى درك الخرافات المحضة.

الكون الذي رسمه العلم الميكانيكي هو كون يمكن التنبؤ بكل ما يعتريه. كل شيء قد حسب حسابه تبعا لقانون السببية ولا مجال لأي زلل. هكذا، صار ينظر إلى التصور الذي يرى أن التوافقات بعيدة الاحتمال، محملة بالمعنى، تصورا -كما يقول شوبنهاور- سخيفا ومنافيا للعقل.

طبيعة التزامن المتجاوزة للزمكان إلى جانب لاسببيته والوحدة التي يتبطن عليها بين العقل والمادة، تتحدى جزئيا نظرتنا إلى العالم لأنها، على ما يبدو، تزعزع أفكار “حسّنا المشترك”، وتصوراته المتأثرة إلى حد بعيد بفيزياء ديكارت ونيوتن الاتباعية.

لكن التزامن، وفق ما يورده عالما البيولوجيا والرياضيات آلان كومبس ومارك هولاند، في كتابهما “التزامن”، يضع نظرتنا الاعتيادية إلى العالم على المحك، بل ويتحداها… يتحداها بخصوص ثلاث مسائل:

أولا: تجاوز الزمكان؛ فبعض ما نواجهه من تزامن، يكشف عن معرفة تتحدى مفاهيمنا التقليدية عن الزمن والمكان. يبدو حينذاك أن الذات بمقدورها أن تتحصل على معلومات تتجاوز حدود الزمكان المعتادة والاتصال بـ”معرفة مطلقة”، كما يقول مؤسس علم النفس التحليلي، كارل يونغ.

اقرأ أيضا: عندما يخاف العلم من نجاحاته.. التعديل الجيني للبشر

ثانيا: أحد أعظم التحديات التي يباري بها التزامنُ الفكرَ الخطي، طبيعته اللاسببية؛ فبما أننا مكبلون بسببية الفيزياء النيوتنية، يكاد الاعتقاد بأن الأحداث والوقائع الداخلية والخارجية، التي ترتبط لا سببيا، أن يكون ضربا من المستحيل.

إننا بسبب عبوديتنا اللاواعية للسببية، نرتكز تلقائيا إلى تعليل سببي، كالعفاريت أو أي بديل غير مادي آخر.

ثالثا: ثمة عائق أكبر من الالتزام المفرط بالسببية، هو اعتقادنا المتأصل بالشرخ بين العقل والمادة؛ إننا نعتقد أن العالم الداخلي للشعور، مختلف اختلافا جوهريا عن العالم المادي اللاشخصي الذي تنظمه قوانين آلية. لكن الارتباط ذي المغزى بين العالمين الذاتي والموضوعي في تجربة التزامن، ينطوي على وحدة بين النفس والمادة.

هكذا، طبيعة التزامن المتجاوزة للزمكان إلى جانب لاسببيته والوحدة التي يتبطن عليها بين العقل والمادة، تتحدى جزئيا نظرتنا إلى العالم لأنها، على ما يبدو، تزعزع أفكار “حسّنا المشترك”، وتصوراته المتأثرة إلى حد بعيد بفيزياء ديكارت ونيوتن الاتباعية.

كان يونغ يرى أن كل حادث متزامن يشتمل على حالتين ذهنيتين في آن معا. الأولى هي حالة العقل العادية، التي هي نتاج ما ينخرط فيه الفرد من نشاطات في تلك اللحظة. والثانية هي حالة غير عادية تنجم عن تفعيل نمط بدئي.

بيد أنه، لحسن الحظ، فإن المفاهيم الحديثة عن الزمكان النسبوي (إنشتاين) والتواصل العميق للعالم الكوانتي[1] اللاسببي، تجعل استيعاب هذه التحديات أمرا ميسورا. يقول كومبس وهولاند في كتابهما “التزامن”، إن “الفيزياء الجديدة لا تبرهن على صحة التزامن، لكنها تتيح إطارا مرجعيا أنسب بكثير لفهمه”.

اقرأ أيضا: حسين الوادعي: نوبل للكيمياء ونظرية التطور

الواقع أن فكرة التزامن، يُقال، طرأت على ذهن كارل يونغ في عشرينيات القرن الماضي، أثناء حديث على الغذاء مع ألبرت إنشتاين. ويبدو أنه محتمل جدا أن تَنتج هذه الفكرة عن حديث بين رجلين أسهما على نحو عظيم في فهم معنى الوحدة في الكون، يونغ في العالم الداخلي وإنشتاين في العالم الخارجي.

كان يونغ يرى أن كل حادث متزامن يشتمل على حالتين ذهنيتين في آن معا. الأولى هي حالة العقل العادية، التي هي نتاج ما ينخرط فيه الفرد من نشاطات في تلك اللحظة. والثانية هي حالة غير عادية تنجم عن تفعيل نمط بدئي.

والأنماط البدئية هي نماذج فطرية عالمية للأفكار، يمكن استخدامها لتفسير الملاحظات. هي بعبارة أخرى، فكرة اللاوعي الموروثة بشكل جماعي (فكرة، صورة، شخصية…)، الموجودة عالميا في النفس الفردية.

يونغ منذ البداية أحس بأن التزامن ليس سوى آثارا سطحية لواقع أعمق وأقرب للكلية، فقال إنه مفتاح يفضي إلى عقد قران بين جوهر الطبيعة البشرية وعالم الواقع المادي الخارجي.

وليشير إلى هذا الواقع الموحد الضمني، هذا العالم الذي ينبغي أن يكون قائما خلف قطبي الروح والمادة، استخدم التعبير القروسطي: Unus mundus (العالم الواحد).

اقرأ أيضا: لغز الأحلام… بين تصورات القدماء واعتقاد المسلمين ونظريات العلماء ! 2/1

إن ارتباطنا بأرضية الواقع الكلية هذه، يقول يونغ، ينعقد على مستوى العقل اللاواعي؛ أي أن التوافقات المحملة بالمعنى رموز تحيل إلى النشاط اللاواعي. فاللاوعي، وفق يونغ، هو المكان الذي تبرز فيه عناصر التزامن، وتجربة التزامن مرتبطة بظهور الأنماط البدئية عبر توسع في اللاوعي الجمعي.

فكرة الكلية، بالمناسبة، فكرة أساسية في الفيزياء الحديثة، وتقول إن الكون مشكل من كليات كل منها منجدل مع الآخر ليشكل ما يشبه أقمشة مطرزة مترابطة دائمة الاتساع. ويرى الفيلسوف الجنوب الإفريقي جان سمتس، أن هذه البنى غير سكونية بل تتطور باتجاه أشكال، أشمل، وأعقد، وأكثر إبداعا.

إحدى تداعيات فكرة الكلية، بكل تأكيد، هي العودة إلى التصور القروسطي الذي يرى أن كل الأشياء مترابطة فيما بينها… سيرورة التطور الكلية هذه، يطلق عليها، من جهته، الفيزيائي الأمريكي، ديفيد بوم، اسم “النظام الباطن”، ويرى أنه لا اختلاف بين ما يحدث في وعينا وما يحدث في الطبيعة.

اقرأ أيضا: في العبقرية: ما كنه هذا السر الغامض الذي يسمى عبقرية؟ 1\2

التزامن إذن كما خلص إلى ذلك كارل يونغ، حدث ذو طبيعة كلية، يتم دون رابط سببي مباشر، ويدل على الجديد، اللامتوقع، والحي.

ومع كل ما أشرنا إليه، ما زالت تبدو هنالك بعض الفراغات… يبدو أنه ما زال أمام العلم، طريق طويل، ليصل إلى تفسير واضح جدا لما يسمى بـ”التزامن”.

لقراءة الجزء الأول: عن التزامن: فكرت فجأة في شخص لم تره منذ ثلاثين عاما، ثم في ذلك اليوم، حدث أن رأيته… كيف حدث ذلك؟ 2/1


[1]  الفيزياء الكمية أو الكوانتية فرع من فروع الفيزياء، ظهر في القرن العشرين وتعمل على تفسير الظواهر الفيزيائية على مستوى الذرة والجسيمات دون الذرية (يقصد بالكم أصغر كمية طاقة يمكن أن تتبادلها الجسيمات بينها).
تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *