تاريخ الموسيقى العربية: على دين ملوكهم… من المنع إلى الانتشار 2/3 - Marayana - مرايانا
×
×

تاريخ الموسيقى العربية: على دين ملوكهم… من المنع إلى الانتشار 2/3

بعدما استتبت الأمور للمسلمين، وخلدوا إلى السكينة، عمدوا إلى أسباب الرخاء وفي جملتها… الغناء.
المرجع في ذلك هم الخلفاء، إذ الناس على دين ملوكهم، لا سيما في الحكم المطلق.
كان الخليفة إذا أحب الغناء، أحبه رجال دولته، فذاع بذلك بين الناس وكثر المغنون والمغنيات.

بعدما تابعنا في الجزء الأول لمحة عن بداية معرفة العرب بفن الموسيقى والغناء، في هذا الجزء الثاني، نرى كيف صار الأمر لديهم بعدما أصبحوا تحت حكم الخلافة الإسلامية.

كان مكروها…

اختلف فقهاء صدر الإسلام في الغناء؛ من أحله قال إن الشعر أصله وقد استحسنه النبي، ومن حرمه قال إنه يبعث على اللهو. هناك اتجاه ثالث، أحل بعضه وحرم بعضه الآخر.

إجمالا، يقول الكاتب اللبناني جرجي زيدان في “تاريخ التمدن الإسلامي”، كان الغناء مكروها عند أهل التقوى. لهذا السبب لم يظهر إلا بعد الخلافة المعروفة بـ”الراشدة”.

يومها، حتى تُقاة القوم، من غير الحكام، كانوا يدفعون بالولاة إلى منعه. يذكر الأصفهاني في “الأغاني” أن أمير مكة كثيرا ما كان يخرج المغنين من الحرم، خوفا من أن يفتتن الناس بغنائهم وأن يصرفوهم عن أمور دينهم.

الخليفة الأموي السابع، سليمان بن عبد الملك، مثلا، كان يكره الغناء.

سمع ذات يوم أحدهم يغني في عسكره، فطلبه وجاؤوا به. قال له فيما يروى: “أعد ما غنيت”، فتغنى واحتفل. فقال له سليمان: “والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه”، ثم أمر به فخصي!

ويذكر الأصفهاني أن سليمان سأل عن أصل الغناء، فقيل له: “في المدينة بجماعة المخنثين وهم أئمته والحذاق فيه”، فكان أن كاتب عامله هناك: “أخص من قبلك من المخنثين المغنين”. فخصاهم.

يذكر النويري في “نهاية الأرب في فنون الأدب”، أن سائب خاثر أول من عزف بالعود بالمدينة وغنى به، وأنه أول صوت غنى في الإسلام الغناء العربي المتقن الصنعة. ولم يزل سائب يغني، حتى قُتل في وقعة الحَرّة (63 هـ).

الأغرب… أن حتى من عرف بين الخلفاء باللهو، لم ينكر ما يجر إليه الغناء.

الوليد بن يزيد كان أول من استقدم المغنين وأسهم في انتشاره، كما تابعنا في الجزء الأول، ومع ذلك قال، يورد الأصفهاني:

“إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة ويثور على الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا. وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة وأشهى إلي… ولكن الحق أحق أن يقال!”.

إذا كان الأمر هكذا مع هواة اللهو، فكيف بمن عرف بالحزم، مثل معاوية بن أبي سفيان، أو التقوى مثل عمر بن عبد العزيز؟

عمر بن عبد العزيز، مثلا، يذكر المسعودي في “مروج الذهب”، بلغه أن قاضيا من قضاته استخفه الطرب من الغناء، فكان أن أمر بعزله.

اقتضته الحضارة…

لكن ما اقتضته الحضارة آنذاك، يقول جرجي زيدان، ساعد تيار الترف في ترسيخ مظاهر عيشهم.

فبعدما استتبت الأمور للمسلمين، وخلدوا إلى السكينة، عمدوا إلى أسباب الرخاء وفي جملتها… الغناء.

المرجع في ذلك هم الخلفاء، يفسر زيدان انتشار الغناء بعد ذلك، إذ إن الناس على دين ملوكهم، لا سيما في الحكم المطلق.

كان الخليفة إذا أحب الغناء، أحبه رجال دولته، فذاع بذلك بين الناس وكثر المغنون والمغنيات.

والغناء “المُطرب” هذا من كثير ما اقتبسه المسلمون من البلاد التي غزوها. ترف العيش آنذاك، حملهم على الاستماع إليه حد الولع به. زيدان يؤكد أن كثيرا من المسلمين وقتها اشتغل في نقل كتب الموسيقى من الفارسية والهندية إلى العربية.

ابن الأثير يذكر في “الكامل في التاريخ”، أن الخلفاء جعلوا للمغنين نوبات يدخلون فيها مجالسهم، كما وفرضوا لهم رواتب كتلك التي كانوا يجزونها للشعراء.

إجمالا، قلما كان الخلفاء يسمعون الغناء من غير شراب. هكذا، إذا طربوا، بذلوا لهم الأموال بلا حساب.

في هذا، كان يزيد بن عبد الملك أحد أكثر الخلفاء بذلا للمغنين وحبا للغناء.

ذات يوم، يورد المسعودي، غنت له جارية له تدعى حُبابة حتى طرب، فقال: “أريد أن أطير!”، فسألته قائلة: “على من تدع الأمة وتدعنا؟”.

على أن الخلفاء هؤلاء، يذكر زيدان، كانوا إذا أهمهم أمر الدولة وتوجسوا من سقوطها، أبعدوا المغنين عنهم ليتفرغوا لإعادة المياه إلى مجاريها، كما فعل المأمون لما رجع من خراسان.

سائب خاثر

حال ذيوع الغناء كما اقتضت ذلك الحضارة، كان يعني أن يظهر مغنون يأخذون مشعل الفن هذا، وأن يسهموا في تطويره.

وقد أجمع الإخباريون، مثل الأصفهاني وابن خلدون… على أن نواة النهضة الموسيقية في البلاد العربية هو سائب خاثر، الذي يعرف بـ”خاثر المغني”.

الخليفة الأموي السابع، سليمان بن عبد الملك، كان يكره الغناء. سمع ذات يوم أحدهم يغني في عسكره، فطلبه وجاؤوا به. قال له فيما يروى: “أعد ما غنيت”، فتغنى واحتفل. فقال له سليمان: “والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه”، ثم أمر به فخصي!

الكاتب المصري محمد كامل حجاج في “تاريخ الموسيقى الشرقية”، يقول إن الموسيقى العربية لم تبلغ قبل سائب خاثر ما بلغته من الإتقان معه.

سائب هذا كان فارسيا من موالي بني ليث، وكان يلزم عبد الله بن جعفر (ابن أبي طالب).

كان سائب في أول أمره مغنيا بسيطا، ثم لما قدم إلى المدينة فارسيٌّ وغنى بالفارسية، أعجب عبد الله بجمال صوته وحس فنه. ولما سمعه سائب، قال لعبد الله: “أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي بالعربية”.

في الغد أصبح عليه وقد لحّن:

لمن الديار رسومها قفر … لعبت بها الأرواح والقطر

وخلا لها من بعد ساكنها … حجج مضين ثمان أو عشر

والزعفران على ترائبها … شرق به اللبنات والنحر؟

منذ ذاك، أخذ يلحن ويغني حتى ذاع صيته.

يذكر النويري في “نهاية الأرب في فنون الأدب”، أن سائب أول من عزف بالعود بالمدينة وغنى به، وأنه أول صوت غنى في الإسلام الغناء العربي المتقن الصنعة.

ولم يزل سائب يغني، حتى قُتل في وقعة الحَرّة (63 هـ).

يقول الأصفهاني إنه كان قد خشي على نفسه، وخرج إلى أهل الشام يحدثهم، يقول: أنا مغن، ومن حالي وقصتي كيت وكيت؛ وقد خدمت أمير المؤمنين يزيد وأباه قبله.

قالوا: فغنّ لنا. فجعل يغني حتى قام إليه أحدهم فقاله: أحسنت والله! ثم ضربه بالسيف فقتله.

فيما بعد مر به بعض القرشيين وهو قتيل، ضربه أحدهم برجله، ثم قال: “إن هاهنا لحنجرة حسنة”.

لقراءة الجزء الثالث: تاريخ الموسيقى العربية: خاثر، الموصلي، زرياب… وأعمدة أخرى 3/3

لقراءة الجزء الأول: تاريخ الموسيقى العربية… البدايات: من إلقاء الشعر إلى غنائه 1/3

 

 

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *