حفصة الرّكونية… مُنتهى تحرر وجُرأة الشّعر النّسائي بالأندلُس! 3/3 - Marayana - مرايانا
×
×

حفصة الرّكونية… مُنتهى تحرر وجُرأة الشّعر النّسائي بالأندلُس! 3/3

كانت الشاعرة حفصة تشبه ولاّدة بنت المستكفي في أغلب صفاتها وطباعها، فكما جمعت ولادة الجمال والحسب والثراء إلى جانب الموهبة الشعرية، جمعت حفصة الركونية هذه الأمور جميعاً؛ وكما أحبت ولادة وزيراً هو ابن زيدون، فقد أحبت حفصة الوزير أبا جعفر بن سعيد؛ وكما عاشت ولادة عزباء دون زواج عاشت حفصة بتولاً كذلك.

في الجزأين الأول والثاني من هذا الملف، عرضنا بعض ملامح وصور الشعر الغزلي الذي قرضتهُ نساءٌ في بلاد الأندلس، وأيضاً شعر ولاّدة بنت المستكفي كنموذج واضح المعالم.

في هذا الجزء، نقدّم شاعرةً لا تقلّ أهميةً نظراً للتشابه بينها وبين بنت المستكفي.

يُقالُ إنّ الشّعر الغزلي يمكنُ عدّهُ كأفضل صورةٍ تُعبّر عن عالمِ المرأة الأندلسية ومكانتها في المشهد الاجتماعي والثقافي إبّان القرن السادس الهجري. من هذا المنطلق، سنحاول الوقوف على صور التحرّر والجرأة لدى حفصة الرّكونية…

الشّاعرة العاشقة لم تكتفِ بهذه الخطوة الجريئة وهي تخيّر حبيبها “أزورك أم تزور”، بل أردفتها بخطوة ثانية أكثر جرأة واندفاعاً، فذهبت إليه بنفسها زائرةً تطرق بابه بجرأة وقد هيأت بطاقة ضمنتها أبياتاً شعرية جميلة

فمن هي هذه الشّاعرة؟ وأيّ مظاهر للتّفوق من حيثُ شجاعة اللّفظ في صُورها البلاغية؟

صعودُ نجم امرأة

ولدت حفصة في العام (530هـ/1135م) في غرناطة، وقد اهتم أبوها بتعليمها وتأديبها، فنشأت مثقفة تلم من كل شيء بطرف، تنشد الشعر، وتكتبُ النثر في رشاقة الأنثى، وهي في حياتها الأولى تنعّمت بحياة الحرية.

وصفها الملاحي في تاريخه بأنها “الشاعرة الأديبة المشهورة بالجمال والحسب والمال”.

قال عنها ابن دحية “رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنظر”.

كما وصف لسان الدين الخطيب في «الإحاطة» جمالها وتميزها وثقافتها الواسعة وروحها السلسة.

يبدو أن حفصة ككلّ النساء (وككل البشر عموما)، قد يستبد بها الشوق إلى صاحبها… لكنّ تفوّق حفصة وجرأتها جعلتها تبعثُ إليه بأبيات شعرية

كانت الشاعرة حفصة تشبه ولاّدة بنت المستكفي في أغلب صفاتها وطباعها، فكما جمعت ولادة الجمال والحسب والثراء إلى جانب الموهبة الشعرية، جمعت حفصة الركونية هذه الأمور جميعاً؛ وكما أحبت ولادة وزيراً هو ابن زيدون، فقد أحبت حفصة الوزير أبا جعفر بن سعيد؛ وكما عاشت ولادة عزباء دون زواج عاشت حفصة بتولاً كذلك. [1]

لكن الفارق بين الاثنتين… هو أن ولادة شمتت بابن زيدون بعد نكبته ووصفته بأبشع وأشنع الصفات، بينما حزنت حفصة على مقتل صاحبها أبي جعفر بن سعيد ولبستْ عليه الحداد؛ ولما تم تهديدها بالقتل، رحلت من غرناطة إلى مراكش، حيث قضت بقية حياتها تحت حماية السلطان المغربي كمربية لبنات الأسرة الموحدية هناك. [2]

يُروى أيضاً أنّها كانت دبلوماسية وصاحبة تأثير، ويقال إنّها ذهبت في وفد تهنئة إلى السلطان الموحدي عبد المؤمن في مدينة الرباط، فارتجلت له القصيدة القصيرة التالية وقالت تخاطبه [3] :

يــا ســيد النـاس يــا مــن … يأمـــل النـــاس رفْـــده

امـــنُن علـــي بِطَـــرسٍ …  يكـــون للـــدهر عـــدة

تخـــطُ يمنـــاك فيـــه … (الحمــــد الله وحــــده)

وتمّ ربطُ هذه الأبيات بمقدار حصافة هذه الشاعرة، ربطاً بأن المراسيم التي كان يصدرها سلاطين المغرب الموحدين كانت تبدأ بعبارة “الحمد الله وحده”.

شعرُ الرّكونية… الجرأةُ في أقصَاها!

تميّزت أشعارُ حفصة الرّكونية بالجرأة، بيد أنّها كانت جرأة نافذة للعُمق ولم تسبقها إليها إحدى الشّاعرات، كما يُروى، لدرجة تساءل بعضُ المؤرّخين، “أي حب هذا الذي يدفع المرأة إلى الغيرة على حبيبها من كل شيء حتى أنها تغار منه عليه؟”  [4]

من الطبيعي، بالنظرة الكلاسيكية تجاه المرأة، أن يكون هؤلاء اعتبروا أن حفصة في حب أبي جعفر، “تفقد دلال المرأة وكبرياءها، فالمرأة مهما لجّبها العشق ومهما صنعت بها الصبابة، فإنه يجمل بها ولو من باب المراعاة لجنسها أن تخفي بعض ما تجد وأن تكون مطلوبة لا طالبة ومرغوبة لا راغبة وان تتظاهر بكونها معشوقة لا عاشقة.” [5]

شعر النّساء في الأندلس، يجسّد صفاءَ الحبّ والثورة على الثّابت وكتابة تاريخ مليء بالأنُوثة… كما يفضحُ من جهة أُخرى أوضاعاً سياسية متشنّجة…

من منظور آخر، أكثر حداثةً وإنصافاً، يبدو أن حفصة ككلّ النساء (وككل البشر عموما)، قد يستبد بها الشوق إلى صاحبها… لكنّ تفوّق حفصة وجرأتها جعلتها تبعثُ إليه بهذه الأبيات:

أزورك أم تزور فـإن قلبي… إلى ما تشتهي أبداً يميل

فثغـري مورد عذب زلالّ… وفرع ذؤابتـي ظل ظليل

وقد أمّلت أن تظمأ وتضحى… إذا وافـى إليك بي المقيل

فعجّل بالجواب فما جميل… إباؤك عن بثينة يا جميل

الطّريفُ… أنّ الشّاعرة العاشقة لم تكتفِ بهذه الخطوة الجريئة وهي تخيّر حبيبها “أزورك أم تزور”، بل أردفتها بخطوة ثانية أكثر جرأة واندفاعاً، فذهبت إليه بنفسها زائرةً تطرق بابه بجرأة وقد هيأت بطاقة ضمنتها أبياتاً شعرية جميلة، تصف فيها مفاتن جسدها وتغريه بنفسها محرضةً إياه طالبة منه الإذن بالدخول، ودفعت بتلك البطاقة إلى جاريته… [6] جاء فيها:

زائـر أتـى بجيـد الغـزال… مطلع تحت جنـحه للهلال

بلحاظ مـن سحر بابل صيغت… ورضاب يفوق بنت الدوال

يفضح الورد ما حوى منه خدّ… وكذا الثغـر فاضح للآلـي

ما ترى في دخوله بعـد إذن… أو تراه لعارض في انفصال

كما لحفصة الركونية بيتان من الشعر تتحدث فيهما عن تجربة حقيقية، تصف فيهما قبلة من قبلاتها رشفت فيها ريق الحبيب الذي هو ألذّ من الخمر… فتقول:

ثنائـي على تلك الثنايـا لأننـي … أقول على علم وأنطق عن خبر

وانصفها ـ لا أكذب الله ـ إنني … رشفت بها ريقاً أرقّ من الخمر

لقد “كانت حفصة تمر عليها الليالي تلو الليالي وهي تفكر في مصير هذا الحبيب، ذلك الرجل الذي أعلن العصيان والجفاء للأمير الموحدي القوي، حاكم الأندلس بلا منازع، فتهتدي بعقلها إلى أن اللقاء بين الحبيبين بالزواج محكوم عليه بالفشل، لكنها رغم ذلك كانت تلتذ في خيالها بالتفكير فيه ليلاً [7]… فتقولُ:

سلو البارقَ الخفَّاقَ والليلُ ساكنٌ … أظلَّ بأحبابي يذكّرُني وَهنا

لعمري لقد أهدى لقلبيَ خفقةً … وأمطرني منهلٌ عارضِه الِجفنا

بقيتَ حفصة، رغم ذلك، تُنشد في حبيبها أبا جعفر شعر غزل رقيق. بيد أنّ السيد الموحدي كان قد أخذ قراره بقتل أبي جعفر، و”هو ما حدث في عام 559هــ، فلم تستوعب حفصة ما حدث، ولبثت عليه السواد، وأعلنت الحداد، وشاع ذلك في غرناطة، ونصحها الأقربون بترك السواد، بل جاءها التهديد الصريح بالعقاب إن هي استمرت على هذا النوح والبكاء” [8]، فقالت:

هدّدوني من أجل لبس الحدادِ … لحبيبٍ لي أردوْه بالحدادِ

رحم الله من يجودُ بدمعٍ … أو ينوحُ على قتيل الأعادِ

في النّهاية… يتّضحُ أنّ شعر النّساء في الأندلس، يجسّد صفاءَ الحبّ والثورة على الثّابت وكتابة تاريخ مليء بالأنُوثة… كما يفضحُ من جهة أُخرى أوضاعاً سياسية متشنّجة…

… مع أنّ هذا النّوع من الشعر الجريء والمتحرر كُتب قبل قرون، فلازال المجتمعُ المغربي يعيشُ ما قبلهُ في التعاطي مع قضايا المرأة وطرق التعبير والمكاشفة عندها.

[1] إحسان هندي، أشهر شاعراتُ الحبّ في بلاد الشّرق والغرب، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب وزارة الثقـافة، دمشق 2012.

[2] نفسه.

[3] نفسه.

[4] يونس هاشم مجيد، معاني الغزل عند شاعرات الأندلس، مجلة الفتح، العدد الرابع والعشرون.

[5] نفسه.

[6] نفسه.

[7] أحمد إبراهيم، حفصة الركونية… شاعرة الأندلس العاشقة، موقع الجزيرة.

[8] نفسه.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *