العروي من التاريخ إلى الحب… وليلى في رواية “ملنخوليا” من الحب إلى النضال 2/2
قال عبد الله العروي في حواره مع محمد الداهي، إنّهُ مرّ مرة من التاريخ إلى الحب، ومرة أخرى من الحبّ إلى التاريخ، بينما ليلى عند مراد الضفري تتحوّلُ من الحبّ إلى النّضال السياسي والرغبة في التغيير الثقافي والتحديث البنيوي للمجتمع المغربي.
تابعنا في الجزء الأول، أنّ شخصية ليلى عند مراد الضّفري، تشكّل صورة للمرأة الحُرّة والكاريزمية، التي لا تجد حرجا في المفاخرة والمكاشفة، فيما يتعلّق بالجنس، وقوفاً على قيم الحرية والفردانية في خطاباتها وأحاديثها.
في هذا الجزء الثّاني، نقدّم لمحةً عن ليلى اليسارية المناضلة والمنخرطة في الفعل الاجتماعي بغاية التغيير.
قال عبد الله العروي في حواره مع محمد الداهي، في إطار سلسة كُتّاب الدّوحة، إنّهُ مرّ مرة من التاريخ إلى الحب، ومرة أخرى من الحبّ إلى التاريخ، بينما ليلى عند مراد الضفري تتحوّلُ من الحبّ إلى النّضال السياسي والرغبة في التغيير الثقافي والتحديث البنيوي للمجتمع المغربي.
ساعد مفهوم ‘النّضال” ليلى، المرأة الحالمة، في تشخيص تشابك الأوضاع والحالات النفسية لجيلها إزاء قضاياه تجاه السياسية والوطن. فضلاً عن الخسارة وآلام الانفصام الحضاري والتاريخي لشخصية طارق، حبيبها منذ أيام النضال الطلابي بالجامعة.
من الحب إلى النضال
في رواية “ملنخوليا”، للرّوائي مُراد الضفري، يرسمُ لنا صورةً شبيهة بتلك الصورة التي رسمتها ليلى أبو زيد في أعمالها إبّان التسعينات، عبر الروايتين “عام الفيل” و”رجوع إلى الطفولة”، حيثُ طرحت أبو زيد أسئلة نظرية وتطبيقية حول العلاقة بين أوضاع المرأة والبرنامج الثوري للتحرر الوطني، عبر سيرة ذاتية لامرأة مُنخرطة في المُقاومة، باعت من أجلها الغالي والنّفيس، فكَانت مُشاركتها تحدياً وإعادة تحديد للأدوار الأنثوية التقليدية،

بحيث كانت المساواة بين الجنسين في صفوف المقاومة واقعا حقيقيا فرضته ظروف الاستعمار.
تبدُو شَخصية زهرة عند أبو زيد شبيهةً، من حيثُ الحماس، بـ”ليلى” عند مراد الضفري. ليلى تلك الرفيقة المُناضلة عضوة حركة “نحنُ نستحقّ”، التي يصوّرها السارد أحياناً وهي تصارعُ الوطنَ بأفكار اليسار الراديكالي الحالمة بالاشتراكية والحرية.
إنها صُورة جديدة للمرأة في الرّواية المغربية، تحمل الشّعارات وتصرُخ وسط الحرم الجامعي، ثم تنخرط في منظمات بدايتها سرية تُعنى بقَضايا سياسية كُبرى، على غرار إسقاط الأحزاب وحلّها وتأسيس أحزاب “وطنية”، ولعلّها قضايا “جديدة” نوعياً أن تنخرط المرأةُ فيها داخل مؤلّفٍ أَدبي، بتلك الجرأة والبسالة، بالمَغرب.
ليلى هنا، لا تعدو أن تكون نمُوذَجاً للمرأة اليسارية النّشيطة المُساهمة في التغيير الثقافي والتحديث السياسي، التي تمرّدت على تقاليد الطاعة والذل الموروثة. لقد خرجت مُشاركةً، مجاهدةً، بفعل إيجابي، واثقة من ذاتها وقدراتها، وتحدّت التاريخ. تتملّكها، كأبناء جيلها، الرّغبةِ في بناءِ وطنٍ حداثي وإرساء قواعد الدولة الوطنية. قدراتها على النقاش في شؤون السياسة، تؤَكدها مواقفها المدافعة بشدة عن أفكارها ومبادئها. يتجلّى ذلكَ حينَ أجَابتْ ناصر في الرواية: “لا… لا… اسمح لي، ليس الأمر أنني لم أفهم، بل لم أتفهم..”.
في سياق آخر، أجابت طارق ولد الخيل: “نعم، انضممتُ لحركة “نحنُ نستحقّ” منذ شهور، دون تفكير طويل”.
الراوي يصوّرها، أيضاً، توسّلاً بأسلوبٍ روائيّ بليغٍ سلسٍ وفريدٍ، بأنها المرأة العصامية التي تعتمدُ على نفسها. صاحبةُ الشّخصية القوية القادرة على تجاوز كل ما يعترض سبيلها من صعاب وعراقيل. قالتْ، وهي تخاطبُ إحدى الشخصيات داخل الكون السّردي: “أنت تعرفني رباطية. حياتي كلها كانت في الرباط، والآن أحاول التأقلم مع هذه المدينة الغول”، وربما السّاردة توحِي أنّ الدار البيضاء كبيرة ومتوحشة بضخامتها، بيد أنّها ستخترقها بمفردها وتتأقلمُ معها دونما حاجةٍ إلى الآخر.
المرأة وسؤال الوطنية
بطلةُ الرواية ليلى، التي تتناوبُ وطارق ولد الخيل بالسّرد، تقول في بداية الرواية: “ارتأيتُ أن أنشر مذكراته التي تركها لي مع مذكراتي، عسانا ندفن معاً وإلى الأبد حكاية مأساة جيلٍ كاملٍ مع الوطن والحبّ والقضية… هذه الحكاية”.
كانت هذه المقولة مساءلة للوطن، وكشفا عن وطنية جيل بـ”أكمله”، حالم بمغرب أفضل. مغرب الحرية والكرامة والديمقراطية. مغرب يعيشُ فيه الكلّ بالتساوي، بدون أداة شرط أو تحفظ… هذه ليلى المسكونة بحب الوطن، وهذه رؤيتها للفرد والوطن والهوية.
المرأة في الرواية، سواء نزهة أو ليلى اليساريتان، تتجاوزُ الهوية بالنسبة لهما ذلك الرقم المخطوط في بطاقة التعريف الوطنية… فالوطنية التي تحمل همّها المرأة، في هذا السّياق، هي مشروعٌ سياسي واجتماعي تمزقُ عبرهُ الصور النمطية، وتضعُ عبرهُ حداً للانشطار النفسي للوطن، الذي يتقوقعُ بين التراث والحداثة.
لقد فشلت النّخبُ، منذُ فجر الاستقلال، في بناء الدولة الوطنية، وها هي المرأة المُثقفة تنخرطُ في حركة “نحن نستحق”… نستحقّ وطناً جامعاً لكل الألوان والأطياف والأديان، نستحقّ وطناً يخلصّ الذات من إيلامات الماضي وخذلان السّلطة وضجيج السّلطوية.
مراد الضفري وكريمة أحداد وعبد الرّحيم جيران.. روائيون أصدروا ثلاث روايات في السنتين الأخيرتين. “ملنخوليا”، “بنات الصبّار”، و“الحجر والبركة”، أثبتت بالمَلموس دور الأدب الروائي في إماطة الحُجب عن فاعلية المرأة سياسياً ومجتمعياً، وكيف أنّها تحملُ هموم الوطن والمواطن وقضايا الحريّة والعدالة الاجتماعية والمساواة.
الشخصيات النسائية داخل الروَايات الثّلاث (“ملنخوليا”، “بنات الصبّار”، و”الحجر والبركة”)، أبدينَ، عبر السّرد، الدور الذي تستطيعُ أن تلعبهُ المرأة وأن تنظّفَ مكانتها من الإكراهات السلطوية للمجتمع والذهنية الآبائية… لقد ألهم العروي الرواية المغاربية الحديثة، فأصبحنا نرى أن الفن الروائي يتجاوزُ الواقع اليوم أكثر مما يصوّرهُ، وهذا ما ساهم بحضور المرأة بشكل مضاعف ومختلف في الرواية.