بين”الخبز الحافي” و”محاولة عيش”.. أدب مغربي لم يُهادن بؤس الواقع وانتصر للمسحوقين. (1/2) - Marayana - مرايانا
×
×

بين”الخبز الحافي” و”محاولة عيش”.. أدب مغربي لم يُهادن بؤس الواقع وانتصر للمسحوقين. (1/2)

”أنتظر الإفراج عن الأدب الذي لا يجتر ولا يراوغ” …
يبدو أن نبوءة محمد شكري قد تحققت؛ فتناسلت العديد من الأعمال الأدبية المغربية التي لم تتورع عن كشف واقع الأحياء الصفيحية وحياة المهمشين، وعرض شخصيات مستضعفة كانت تتوق لمن يَنثر ألاماها في الورق.

”الفقراء” لدوستويفسكي. ”عناقيد الغضب” لشتاينبك. ”البؤساء” لفيكتور هوغو…

هي لائحة مختزلة لبعض كلاسيكسات الأدب العالمي التي اتخذت من الفقر والمعاناة تيمات السرد الأساسية.

في المقابل، ظلت شُبهة التهرب من الواقع تلازم الأدب (”أحلام الشعراء” مثال لذلك)، الذي يعلم العارفون به أنه أداة فنية رفيعة للنقد الخلاق وتصوير الاختلالات السوسيواقتصادية التي طبعت المجتمعات في ظرفيات تاريخية معينة.

نستعرض في هذا المقال، على امتداد جزأين، ثلاثة نماذج لروايات مغربية، أنزل فيها الروائيون المغاربة شعار ”الكتابة كاحتجاج” للواقع، مساهمين في تأبيد النقاش حول جدوى الأدب ”الجريء”.

”الخبز الحافي”… اعترافات صاعقة حملت الشحرور لسماء العالمية.

لم يَكتُب أمير الصعاليك -كما وصفه الأديب عبد الرحمان منيف- سيرته الذاتية لانتقاد بنية المجتمع واختلالاته، لقد كتبها لمداواة نفسه ولملمة ندوب طفولته القاسية.

محمد شكري

تخشى مجتمعات المغرب الكبير والشرق الأوسط المكاشفة والحديث عن الطابوهات، لذلك، فعندما فاجأها محمد شكري بشلال من المواضيع المسكوت عنها (المثلية الجنسية، الإحباط الجنسي للمراهقين، الدعارة…)، لم تجد سوى مقصلةِ الرقابة والمنع لحجب الرواية عن القارئ.

”إذا كان من تمنيت له أن يموت قبل الأوان… فهو أبي”، ”أستمتع بالنوم في الدروب مع المشردين”، ”أوشكت أن أقول لها إنني قد لعبت بجسدي في الحي مع رفاقي”، هذا غيض من فيض اعترافات الشحرور الأشقر الذي أقدمَ على السرد بكامل عريه الإنساني.

لم يتورع عاشق طنجة في روايته عن الحديث عن مضاجعته لشجرة، معاشرة أبيه لأمه أمام أعينه، اقترافه للسرقة وممارسته للمثلية الجنسية.

اقرأ أيضا: منع الكتب: سلاح الاستبداد في محاربة التحرر

بعدما تعلم الكتابة والقراءة، بعد سن العشرين، استشعر الكاتب أنه انتقم لنفسه من بؤس الحياة. بعد ذلك، لم يجد حرجا في أن يفتح بالكلمات جرحه الكبير.

قراءةُ مراسلات محمد شكري والكاتب محمد برادة ”ورد ورماد”، قد تكون تمهيدا جيدا قبل الاصطدام بنص قاس كـ ”الخبز الحافي”. في هذه المراسلات نفهم تمرد شكري، ولعه بالكتب (يفند هذا اتهامه بعدم كتابة الرواية الشهيرة) وصعلكته وتماطله؛ فبرادة وزوجته كانا يلحان عليه لإرسال تكلفة طبع بعض أعماله.

“لقد فاتني أن أكون ملاكا”… هكذا ختم محمد شكري روايته، وكأنه أراد أن يجيب منتقديه: حياتي من كتبت هذا النص ولست أنا.

”محاولة عيش”.. الحق في الحياة حتى في أحضان البؤس.

رواية للأديب المغربي الكبير محمد زفزاف، صدرت سنة 1985.

ليس عبثا أن نصفه بـدوستيفسكي المغرب، فإذا كان الكاتب الروسي قد برع في تصوير مظاهر الفقر في روسيا، فقد تألق زفزاف في توصيف العوالم السفلية وسرد حياة المهمشين في المدن.

تحكي الرواية قصة ”حميد”، ابن عائلة فقيرة تقطن ضاحية للمدينة.

 

محمد زفزاف

كان عمر حميد 16 سنة. عندما ”كبرت أكتافه”، دفعته عائلته لبيع الجرائد؛ ساقته لعالم قاسِ، ليعيش تحت رحمة الصفع والتقريع من رئيسه ومهانة التفتيش من المتربصين برزقه الزهيد.

حملته هذه المهنة إلى عالم الحانات حيث الجنود الأمريكان وعاملات الجنس.

”إنهم قساة. لا يشترون جرائده. فقط يشتمونه عندما يدخل المقهى. أو يعرض عليهم صحفه”، لقد قدم لنا الكاتب البوهيمي شخصية جردتها قسوة الحياة من الكرامة وعاشت محرومة من حرية الاختيار.

استبد الإحباط الجنسي بحميد، لذلك رضي بعرض أمه له بالزواج. تم إرشاء المقدم ليرضى ببناء العائلة لكوخ جديد يستهل فيه الابن حياته الزوجية. لكن المراهق لم يتنفس حرية الإرادة إلا عندما تعلق ببائعة الهوى ”غنو”، بعدما أنقذها من عراك دام لسكارى كانوا يتنافسون عليها. هنا اكتشف حميد لذة الجسد وعمق مشاعر الحب مع إنسانة صادقة.

اقرأ أيضا: حرية التعبير في المغرب: رقابة ضد الفكر والإبداع وبرلمانيون يطالبون بمزيد من المراقبة 2/2

رغم هذه المغامرة العابرة-الأبدية، لم ينس حميد أنه ابن طيع من المهمشين، جهز نفسه لليلة الزواج الموعودة مع ”فيطونة”، لم تتحقق أسطورة غشاء البكارة… فتداعى كل شيء.

استكثرت بعض الأصوات ”المحافظة” على الرواية إدراجها في المقرر الدراسي للسنة الثالثة إعدادي، بدعوى أنها ”لاأخلاقية” وتدور أحداثها في الحانات. سقط أصحاب هذه المواقف في السطحية وعدم النظر إلى عمق الرواية. فهذا النص ينبه للمآلات غير المضمونة للهجرة القروية ومآسي دور الصفيح التي لم يتخلص منها المغرب حتى اليوم.

من الأبعاد المهمة للرواية، إبراز تدمير إحدى أهم قيم الحداثة في مجتمعنا: الفردانية، فحميد كان لا شيء وسط المجتمع؛ صار مجرد مطية في يد عائلته ومُشغله.

خمس وثلاثون سنة بعد إصدار الرواية، لازال العديد من الشباب يعيش تحت وطأة شيطنة قيم الاستقلالية والفردانية، فتصير قرارتهم المصيرية (الزواج، الدراسة…) خاضعة لسلطة العائلة والموروث الثقافي للمجتمع.

 

المــراجــع:

1-محمد شكري، الخبز الحافي، دار الساقي.

2-محمد زفزاف، محاولة عيش، المركز الثقافي العربي.

3-محمد برادة ومحمد شكري، ورد ورماد.

 

لقراءة الجزء الثاني: الأدب ”الجريء” بالمغرب… نقد خلاق أم مجابهة لمجتمع غارق في التقليدانية؟ 2/2

تعليقات

  1. خديجة

    مقال رائع ناقش الموضوع بجرأة نفتقدها في هدا الزمن وبالتوفيق ان شاء الله

  2. مولاي عبد الرحمن سعد

    هناك زخم كبير. باحداث او لنقل للمشاريع سردية تتوافر بكثرة بمجتمعنا، وخاصة من خلال مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي تميز قيمنا وسيرنا اليومية.

اترك رداً على خديجة إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *