من مصر، منى حلمي تكتب: كاتبتان وشاعرتان متشابهتان… حد الوجع والمرارة - Marayana - مرايانا
×
×

من مصر، منى حلمي تكتب: كاتبتان وشاعرتان متشابهتان… حد الوجع والمرارة

مي زيادة تعبر عن مأساة كل أديبة تجمع بين الجمال الخارجي والجمال الداخلي والجمال الأخلاقي، في مجتمعات لا يسعدها إلا المرأة ذات “الحواجب المنتوفة”، والخصر الملفوف، والعيون المرسومة، والشفاه الحمراء، والشعر المنساب على الأكتاف، والتمايل على الكعب العالي. امرأة تجيد الطبخ والمسح وخدمة الأطفال. جاهزة ليل نهار، لأن تُلتهم في وجبات النكاح.

هي “أختي”، التي لم تنجبها أمي. صديقتي الحميمة، وأنا ليس لي صديقات.

شبيهتي، وأنا لا يسمح لي “هوسي” بحب نفسي، أن أعترف أن هناك امرأة تشبهني، أو أن تصلح حتى.. أن تكون “شبيهتي”؟

هل أنجبتها “أمي” من رجل أحبته، دون معرفتي، وبقيت الحكاية سرا أخذته معها إلى نومها الأبدي؟ هل كانت صديقتي، وأنا “فاقدة الذاكرة”، في زمن ما؟ وهل هي امرأة إلى هذا الحد، فريدة من نوعها، حتي تتجرأ وتجبرني على الاعتراف علنا، أن المرايا كاذبة، وأنها شبيهتي… وتشبهني؟

كلما تعرفت عليها أكثر، يزداد يقيني، أنها امرأة مصنوعة من قماش أنوثتي، كاتبة تستقل قطار الكلمات نفسه، الذي يحملني إلى ما يشتهيه قلبي، وما يسبب مأساته، شاعرة تسبح في بحور الشِعر التي تغرقني، ولا أستغيث بطوق نجاة.

أزهو بشعور قوي، لا يفارقني، أنني أكمل المسيرة اللامنتهية، في الكتابة والوحدة وعدم الانتماء إلى كوكب الأرض.

عندما وجدت رجلا يفكر بلغتها الخاصة، ويكتب الشِعر والفلسفة ويرسم اللوحات، كان عصي المنال إلا بالرسائل المشعة بالنبل العاطفي، والسمو العقلي. وهذا تشابه آخر بيني وبينها، حيث تأكدت من تجاربي، أن الحب الحقيقي الراقي، غير الملطخ بشهوات الجسد، ولا يستحم بماء الذكورية الآسن، غير متاح، وعلينا الانتظار لزمن آخر.

كان لها صالونها الثقافي في بيتها كل ثلاثاء. وأنا أيضا كنت أعقد في بيتي، الملتقى الثقافي كل ثلاثاء.

لها صورة نادرة مع أمها، وهي طفلة تضع “فيونكة” بيضاء في شعرها. وأنا لي صورة مشابهة، إلى حد أنها خدعت أمي، التي سألتني مندهشة: “ومنْ هذه المرأة الجالسة أمامك يا “مُنى”؟.

عاشت وماتت وحيدة. وهذا أيضا مصيري.

أكبر اختلافين بيننا، أنها في أواخر حياتها، اتهموها بالجنون، وهي استاءت من التهمة، وأثبتت بطلانها. أما أنا، فالجنون الذي وُلدت به، لا أعتبره تهمة، بل شرفا، أدعيه وأمارسه وأشتهيه أكثر.

مي زيادة mai ziada
مي زيادة

الاختلاف الثاني، أن زمنها، رغم قسوته، وذكوريته، كان فيه… “شوية خير وشوية شِعر وشوية أدب “… أدب الأقلام وأدب الأخلاق.

إنها مي زيادة، 11 فبراير 1886 – 17 أكتوبر 1941، فراشة الأدب العربي، ووردته اليانعة، جرحت بأشواكها، جلد مجتمعاتنا الممتلئ بالدمامل الاجتماعية والثقافية والذكورية. كانت تريد أن تنظف وتطهر وتعالج… يريدونها أن تسكت، وتقبع راضية على ذمة زوج.

“مي” تعبر عن مأساة كل أديبة، تجمع بين الجمال الخارجي والجمال الداخلي والجمال الأخلاقي، في مجتمعات لا يسعدها إلا المرأة ذات “الحواجب المنتوفة”، والخصر الملفوف، والعيون المرسومة، والشفاه الحمراء، والشعر المنساب على الأكتاف، والتمايل على الكعب العالي. امرأة تجيد الطبخ والمسح وخدمة الأطفال. جاهزة ليل نهار، لأن تُلتهم في وجبات النكاح.

“مي زيادة” موهبة نادرة الخامة، من أغلى الأحجار الكريمة، خالية من شوائب الادعاء، والتقليد، مثقفة العواطف، راقية العقل، متعددة القدرات، متمردة التجليات. فهي تكتب الأشعار، والمقالات الصحفية، والخواطر الأدبية، وتكتب المحاضرات وتلقيها بكل براعة: صحفية تفيض مقالاتها بأسلوب جديد يعكس عمق ثقافتها، وخطيبة تتحدث بشغف قلبها، تجيد تسع لغات، ومترجمة تضيف إلى النص المترجم، أناقة فوق أناقته، ومديرة حوار لبقة، رحَالة جالت العالم، مدافعة عن حريات النساء، بوعي عميق، وعيون دائمة اليقظة للتمييز والقهر وغياب العدالة.

في صالون “مي”، اجتمع أهم أدباء وشعراء ومفكرd عصرها،  مثل طه حسين، أحمد شوقي، مصطفي صادق الرافعي، خليل مطران، عباس العقاد ومصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر. لم يفلت أحد من جاذبيتها الفريدة، تمزج بين انطلاقها وتفتحها، مع استقامة الخلق، والشياكة البسيطة.

قلبها عنيد، دقيق في اختياراته، صعب إرضاؤه، لم يخفق إلا لرجل يبعد عنها آلاف الأميال، لكنه يوقظ عواطفها النائمة، ويفهم رسالة الأدب والفن… وكان “جبران خليل جبران”، 6 يناير 1883 – 10 أبريل 1931، الحبيب الذي لم تلقَه إلا بالرسائل المسافرة بينهما، منذ 1911 وحتى رحيله.

في أحد كتبها: “المساواة”، 1923، أوضحت أن دعم الرجال مهم للنساء، لكن، لن يحرر المرأة الا المرأة نفسها. وطموح المرأة لا يجب أن يكون المساواة بالرجل، لأنها حينئذ ستحرم نفسها من عالمها الذاتي، الذي تصنعه هي بإلهامها وأحلامها. وكتبت أن حجاب المرأة، مفروض من الرجال، ليحجب تقدم المرأة الفكري والعملي.

فقدت “مي” كل منْ أحبتهم، في أوقات قريبة متتالية. الأب، ثم جبران، ثم الأم. أصابها الفقد بزهد في الحياة، وعزوف عن مواصلة أنشطتها، وساءت حالتها عندما اتهمها أقرباؤها بالخلل العقلي، وذهبت إلى مستشفى العصفورية للأمراض العقلية، في بيروت.

… وعادت “مي” إلى مصر، وأعطت محاضرات تنم عن عقل بكامل قواه وحيويته. لكنها ملت الحياة والناس، وتوقف قلبها المفعم بالحماس، رغم أنها مازالت تتنفس.

في مصر، بمستشفى المعادي، يوم 17 أكتوبر 1941، ذبلت الوردة، وتوقفت فراشة الأدب عن التحليق، وسكت قلبها اللامنتمي، المحروم من الحب، الحزين أكثر من طاقته.

النساء والرجال، ضيوف صالونها الأسبوعي، والعشاق الذين فُتنوا بها، غابوا جميعا عن جنازتها، الا أحمد لطفي السيد، وخليل مطران، وأنطوان الجميل.

وهذا تشابه آخر بيني وبين “مي”. لكنها أفضل حظا. فمن أين لي بمثل هذه القامات الثلاث، لتمشي في جنازتي؟.

 

الشِعر خاتمتي

قصيدة: لا أكرر شغفي

 

كلما التقيت رجلا قال لي:

“هل تحبينني إلى الأبد”

وفي كل مرة إجابتي لا تتغير:

“لا أؤمن بخرافة الأبد…

ولا يعنيني حتى لو وُجد…

أنا امرأة الليلة الواحدة

أمنح كل ما عندي…

حتى أفقده تماما…

أنا امرأة ملولة…

لا أكرر أفعالي وأقوالي…

أريد حبا في ليلة واحدة

لا أستطيع أن أعيد توهجي وشغفي

بالروح والقلب والجسد

أنا امرأة غير مفهومة

لأنني لست للأبد

أنا امرأة الشيطان

لأن الحب عندي نبوءة

أصلي لها

فقط يوم الأحد

ورسول أؤمن به

يوما واحدا فقط

ثم أكفر برسالته

ولو لقلبي سجد

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *