محمد أمنصور: فرّاشة الوجوه الزرقاء - Marayana - مرايانا
×
×

محمد أمنصور: فرّاشة الوجوه الزرقاء

يخيل إلي ـ والله أعلم ـ أن المشكل الحقيقي لأصحاب الوجوه المدلاة في قشاوش عاشوراء (الفيسبوك ـ السطوري…) هو افتقادهم إلى الحب.
وكأني بفرّاش وجهه دون طلب من أحد يستجدي المارة في الشارع العام.. أيها الآخر! هذا وجهي وهذه جثتي.. هذه ملابسي وهذه سياراتي.. انظر إلى وجهي جيدا ولايكي الله يرحم الوالدين..
لا تتأخر، فشغلي الشاغل في تلفزتي هو الإعجاب.. ساعدني أرجوك على الظهور بمظهر المحبوب والباقي لا يهم. أتوسل إليك… لا تترك وجهي يواجه عزلة وجودية زرقاء قاسية أمام ثمانية ملايير نسمة من البشر.

1 ـ بعد الثورة الرقمية، صارت الصورة محورية في وجود الإنسان. لم تعد مقتصرة على دورها في الحفاظ على الذكريات والمناسبات. انتقلت أهميتها من الدلالة على الماضي في ألبوم العائلة إلى جزء لا يتجزأ من صناعة شكل حضورنا في الحياة اليومية. لم تعد حكرا  على نجوم السياسة والرياضة والسينما في الصحافة الورقية. تحولت إلى حق مشاع بين ثمانية ملايير من سكان الكرة الأرضية، وصار التقاط صورة بالسيلفي أو غيره على رأس الدقيقة، هو الفعل الأكثر شيوعا بين جميع أنواع البشر (…).

2 ـ قديما، كانت لبعض الناس مشاكل مع وجوههم. اليوم، صالح الفضاء الأزرق صاحب الجثة مع وجهه، فتدلت الوجوه الزرقاء في الشاشات. اختفت مهنة المصور وانقرض الألبوم الورقي. لم يعد أحد ينتظر المناسبات لتخليد وجهه بأخذ الصور وانتشر الهاتف الذكي بين الأيدي. صار حامله مصور نفسه بنفسه. أما الفيسبوك، فقد أتاح لكل مواطن امتلاك تلفزته الخاصة، ما جعل هذا الأخير يتحول إلى  فرّاش يفرش سلعته في الطريق الأزرق بين الأرجل لا شغل له إلا توثيق ومواكبة  تحولات وجهه من الصباح إلى لحظة النوم (…).

3 ـ ولّى الزمان اللاديمقراطي الذي كانت فيه الصور حكرا على النخب في صفحات النجوم بالمجلات والجرائد. تساوى بوزبّال مع صاحب الإنجاز العظيم. آ الأخ..! هل لديك حساب في الفيسبوك؟ إذن، تستطيع أن تفتح تلفزة خاصة بك وتنشر وجهك على الملأ. يكفي أن تشتهي تملِّي ثمانية ملايير نسمة من سكان الكرة الأرضية في طلعة وجهك البهية حتى تطل عليهم باسما أو مخنزرا. ناشط مع راسك أو يا الله فقت من النعاس. شوف!.. لماذا لا تفتح مثلي تلفزة خاصة وتخطب فيهم:

ـ أيتها السيدات والسادة!

هذا أنا وهذا وجهي!.. انظروا إليه جيدا، فأنا أفرشه لكم مجانا في مملكتنا الزرقاء. إليكم آخر تحديث لملامحه ولمن يرغب في متابعة تحولات تقاسيمه. هذه جبهتي وحاجبي وعيناي وأذناي وشاربي وفمي وأسناني وذقني قبل الحلاقة وبعد الحلاقة. كل مكونات وجهي تجدونها في تلفزتي بالمجان. المقابل الوحيد الذي أطلبه منكم هو اللّايك والجمجمة. لايكيوا وجمجموا الله يرحم الوالدين!.. ولمن لم يشبع من تحديث اليوم، ما عليه إلا أن يرجع إلى ذاكرة تلفزتي. سيجد في الأرشيف وجهي منذ كنت قردا من فصيلة الشمبانزي إلى أن تم تجويد ملامحه بعد حصولي على الوظيفة. هل يخفى عليكم التحسن الملحوظ في تغذيتي الذي أدى أوطوماتيكيا إلى تحسن “لامين” دوجهي؟ أيها..الـ..، أعدكم أن يستمر التحيين والتجويد إلى أن نحصل جميعا على وجه ما ضايرش! أما جثتي، فأضعها رهن إشارتكم في صور موازية تجدونها هي الأخرى في كل الأوضاع.. المطبخ. مقر العمل. المقهى. مع الأصدقاء. البيت. الحديقة. المسبح. الجبل. السرير. المرحاض(…).

4 ـ س: لماذا ينشر الناس صورهم الخاصة على الكرة الأرضية دون أن يطلب منهم أحد ذلك؟ واش شايطا عليهم وجوههم؟

ج: عادي.. ما المانع في ذلك؟ أليست دمقرطة الوجوه واحدة من أعظم إنجازات البشرية اليوم؟ هل ترغب في إعادة عقرب الساعة إلى الوراء؟

س: ألا يتعب هؤلاء الفرّاشة من عرض وجوههم يوميا على جمهور يفترضون أن لا شغل له إلا اقتناء سلعة الوجوه الشايطة؟

ج: وكأني بك تلمح إلى أنهم مرضى؟ لو كانوا كذلك لما جاد عليهم الناظرون باللايكات والجمجمات والكومونطيرات؟

ينظر السائل إلى صاحبه نظرة ارتياب ويقول:

ـ يخيل إلي ـ والله أعلم ـ أن المشكل الحقيقي لأصحاب الوجوه المدلاة في قشاوش عاشوراء (الفيسبوك ـ السطوري…) هو افتقادهم إلى الحب. وكأني بفرّاش وجهه دون طلب من أحد يستجدي المارة في الشارع العام.. أيها الآخر! هذا وجهي وهذه جثتي.. هذه ملابسي وهذه سياراتي.. انظر إلى وجهي جيدا ولايكي الله يرحم الوالدين.. لا تتأخر، فشغلي الشاغل في تلفزتي هو الإعجاب.. ساعدني أرجوك على الظهور بمظهر المحبوب والباقي لا يهم. أتوسل إليك… لا تترك وجهي يواجه عزلة وجودية زرقاء قاسية أمام ثمانية ملايير نسمة من البشر، وإلاّ!؟

ـ وإلا ماذا؟

ـ سأنتقم منك.. والله لا لايكيت ليك فاش تحط صورك أنت.

ـ هو شانطاج إذن؟

ـ حسبو كيف ما بغيتي؟.. تلايكي لي نلايكي ليك.. ما تلايكيش  والله لا عقلت عليك!(…).

 

5 ـ الخطاب الأخير للسيد سين، صاحب الوجه الأزرق:

أيتها السيدات.. أيها السادة!

الذي لا يفرش وجهه في التلفزة الزرقاء دون طلب من أحد، ما بين كتفيه لا لون له.

من لا تلفزة له، لا وجه له.

تلفزوا وجوهكم باللون الأزرق يرحمكم الله!

افرشوا وجوهكم على الشاشة الزرقاء لتحصدوا اللايكات والجمجمات والبارطاجات والكومونطيرات ؛ وإلا كيف ننشر جميعا ثقافة الوهم والنفاق ؟

السيد جيم:

ـ هل قلت النفاق؟.. سطوب!.. وقّف..وقّف علينا هاد شي الله يرحم الوالدين (…).

نقطة عودة إلى السطر!

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *